ارشيف من : 2005-2008

مجزرة الشاطئ في غزة:هدى فقدت عائلتها في رحلة فرح لم تكتمل

مجزرة الشاطئ في غزة:هدى فقدت عائلتها في رحلة فرح لم تكتمل

غزة ـ عماد عيد‏

ما بين جثة والدها الممدة على شاطئ البحر، وبين جثث أشقائها وأمها الذين مزقتهم قذائف البوارج البحرية الإسرائيلية، تاهت خطوات "هدى علي غالية"، لكنها استقرت عند جثة والدها الذي اعتقدت انه الملاذ الأخير لها من قذائف الموت الإسرائيلية التي تناثرت في محيط الشاطئ.‏

عائلة بأكملها لم ينجُ منها سوى هدى التي رآها العالم على شاشات التلفاز وهي تصرخ "يابا.. يابا.. يابا.. يابا".. من دون أن يجيبها.‏

الرحلة نحو الشاطئ كانت عادية، فالأسرة المنكوبة تجمعت والأمل يحدوها بيوم سعيد لا مكان له في الوطن المحاصر سوى البحر.. لم تكن هدى ولا أسرتها يعلمون أنهم يسيرون نحو نهايتهم، ولم يكن أحد يعلم أنه بدلا من شَيّ الذرة على شاطئ البحر ستُشوى أجسادهم بقذائف الاحتلال.‏

فعائلة غالية الفلسطينية التي فقدت سبعة من أبنائها هم الأب والأم وخمسة من الأبناء، هربت من حر الصيف وضيق المخيم والحصار الاقتصادي والسياسي المفروض على الشعب الفلسطيني وعلى العائلة نحو البحر، وهي الرحلة التي وعد الوالد أبناءه بها إذا نجحوا في دراستهم.‏

لم تمض سوى ساعة واحدة على وصول الأسرة إلى شاطئ البحر حتى دوى انفجار ثم تلاه آخر، لتتحول أجسادهم إلى أشلاء ممزقة، خاصة هيثم ابن العام الواحد الذي اخترقت الشظايا جسده الصغير ففارق الحياة على الفور.. بينما صابرين (3 أعوام) فقدت نصف رأسها، والأم قُتلت، وهنادي غالية (عامان) ومعها إلهام وعلية ورئيفة، جميعهن قُتلن، وأصيب العشرات بينهم أربعة من أفراد الأسرة نقلوا الى المشافي بين الحياة والموت.‏

هدى التي كانت لا تزال تعيش الصدمة تنقلت صارخة بين الجميع وتوقفت عند جسد أبيها وهي تصرخ طالبة من المصورين نقل الصورة للعالم.‏

تقول هدى والدموع لا تفارق عيونها كلما تذكرت ما جرى: كنت داخل مياه البحر، وعندما سمعت صوت الانفجارات نظرت حولي فشاهدت الجميع غارقين بدمائهم.. صرخت ثم صرخت، وتوقفت عند أبي الذي مات أيضا حتى جاءت الإسعاف وقامت بنقلي مع أخي الكبير الذي كان يصرخ بجانب أمي وقد نجا من الموت مصابا أيضا.‏

وتتذكر هدى اللحظات التي سبقت الانفجار: "كان أبي وعدني اذا نجحت في المدرسة بأن أذهب للبحر مع إخوتي.. بدأنا نسبح في البحر فيما أشعل أبي النار ليشوي الذرة.. كنا مسرورين جدا، لكني أصبحت الآن أكره الذهاب للبحر، لأن أهلي جميعا قُتلوا هناك".‏

هدى لم تعرف من مات من أهلها إلا في لحظة الوداع الأخير، فقد اعتقدت انهم جرحى، وأن الحياة ستُكتب لهم من جديد بعد وصولهم للمشفى. لكن الجثث التي وصلت الى المنزل صبيحة اليوم التالي كشفت ما اختبأ من الحقيقة، فقد مات الجميع وبقيت هي الوحيدة التي لم تصبها الشظايا الإسرائيلية.‏

تقول عمتها: "لم تستطع هدى النوم طوال ساعات الليل، وكانت تصرخ بشكل هستيري من شدة ما رأت، وجاء الطبيب وأعطاها أقراصا منومة. وعندما استيقظت حملت لها كوب اللبن لتشربه فقالت "خليه لأخي هيثم".. وهنا بدأت العمة تبكي.. "مسكينة هدى، لم تكن تعلم أن أمها وأباها ومهند والجميع قد قُتلوا"..‏

وأضافت العمة: "نحن في هذه العائلة لنا موعد مع الموت كل عام.. في العام الماضي وقبل انسحاب الجيش الإسرائيلي بثلاثة أشهر، أُطلقت قذيفة على أبناء أختي فقُتل خمسة منهم، وهم من عائلة غبن، واليوم يُقتل سبعة من أولاد أخي.. الحمد لله.. الحمد لله".‏

الصورة تتكلم‏

زكريا أبو هربيد المصور الذي نقل صورة الجريمة البشعة للعالم روى لـ"الانتقاد" تفاصيل ما جرى: "في البداية تلقيت اتصالاً هاتفياً من أحد الزملاء العاملين في طواقم الإسعاف بأن هناك استهدافاً لمجموعة من المقاومين في بلدة بيت حانون، فركبت سيارتي وأخذت معي الكاميرا وتوجهت بسرعة إلى مكان الاستهداف، لكن في الطريق جاءت الأنباء ان هناك قصفاً جديداً على شاطئ البحر، فكنت قريبا من المكان واستطعت الوصول بشكل سريع".‏

وأضاف: "عندما شاهدت المكان رأيت الجثث ملقاة على الأرض والأطفال الذين استشهدوا.. لفت انتباهي طفلة تخرج من البحر وثيابها مبللة بالمياه، ما يشير إلى أنها كانت تلعب في البحر، وقد بدأت بالجري باتجاه أمها، فوجدتها مستشهدة وبجانبها جثث كثيرة.. ثم جرت نحو أبيها وبدأت بالصراخ، فاحترت كثيرا، الا ان إحدى صرخاتها كانت تقول: صوروا.. صوروا.. فأكملت التصوير وقلبي يتقطع".‏

وأكمل أبو هربيد أنه بعد أن انتهى من تصوير الفتاة هدى، لم يتمالك نفسه وراح يبكي بجوارها.‏

وقال: "أنا بكيت كهدى وأكثر، لأن الموقف كان لا يوصف.. لكني أجبرت نفسي على الاستمرار بالتصوير لأني أدرك كم هو مهم ان يرى العالم هذه المأساة".‏

ولم تكن هذه هي الحادثة الأولى التي يقوم المصور أبو هربيد بتغطيتها، حيث رصدت كاميراته مأساة عائلة غبن التي فقدت عددا كبيرا من أطفالها وأفرادها في قصف إسرائيلي على منازلها في بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة. كما سبق لزكريا أن أصيب بجراح في يده عام 2001 بعد أن تعرض لإطلاق نار كثيف من قبل القوات الإسرائيلية بينما كان يغطي مظاهرة فلسطينية مطلع الانتفاضة في الحي النمساوي غربي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة.‏

الجيش الإسرائيلي حاول الهروب من المسؤولية عن الحادث متهما عناصر من حماس بزرع عبوة ناسفة في المكان، لكن الكاميرا التي كان يحملها أحد المصورين في مكان آخر كشفت جزءا آخر من الحقيقة.. فقد أظهرت الصور بما لا يدع مجالا للشك ان الزوارق الحربية الإسرائيلية هي التي أطلقت القذائف تجاه الأسرة، وقد دعمت منظمة حقوقية دولية هذا القول وأكدت ان الشظايا أصابت الاطراف العلوية من الجسم، ولم يتعرض أي من الشهداء والمصابين لأي بتر في الأطراف، وهو ما يعني ان اللغم ليس أرضيا في كل الأحوال، وأن القذيفة التي أُطلقت هي من عيار 155، وحسب المعلومات لا يملك الفلسطينيون قذائف مثلها.‏

ادعاءات "اسرائيل" ونفيها القاطع جاءت للتغطية على الصورة التي شابهت في الآثار التي تركتها ما خلفته صورة الشهيد محمد الدرة في بداية الانتفاضة، والتي حركت قلوب العالم.. فهل تحرك هذه الصورة قلوب البقية، أم أن القلوب باتت كالضمائر؟!‏

الانتقاد/ موضوع الغلاف ـ العدد 1166 ـ16 حزيران/يونيو 2006‏

2006-10-30