ارشيف من :آراء وتحليلات

العراق ومحيطه العربي: بين تركة الماضي واستحقاقات الحاضر

العراق ومحيطه العربي: بين تركة الماضي واستحقاقات الحاضر

بغداد ـ عادل الجبوري

تحفل مسيرة العلاقات العراقية – العربية في إطارها العام، وخصوصا بعد الاطاحة بنظام صدام، بمفارقات غير قليلة، وتحكمها وتتحكم بها تجاذبات عديدة، تعد في معظمها من مخلفات وتركة حقبة النظام السابق.وغالبا ما تبرز تلك المفارقات والتجاذبات بكل وضوح عند المقارنة بين المواقف النظرية والممارسات العملية.

في الايام القليلة الماضية زار اثنين من كبار السياسيين العراقيين دولتين عربيتين مهمتين، رئيس الجمهورية جلال الطالباني زار مصر، وقيل ان الهدف من الزيارة اللقاء بالرئيس المصري للاطمئنان الى صحته بعد رحلة علاجه في المانيا، وبحث آخر مستجدات الوضع العراقي مع حسني مبارك والامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى.

وفي نفس الوقت تقريبا قام رئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي السيد عمار الحكيم بزيارة الى دولة الكويت، حيث التقى اميرها وولي العهد ورئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الامة ومسؤولين كبارا اخرين، وهذه الزيارة لا تخرج عن سياق جولات عربية واقليمية قام بها الحكيم خلال الاعوام الثلاثة الماضية التي تصدى فيها فعليا لرئاسة المجلس الاعلى خلال مرض والده الراحل السيد عبد العزيز الحكيم، ورسميا بعد وفاته في السادس والعشرين من شهر آب/ أغسطس من العام الماضي.

وبينما جاءت زيارة الطالباني للقاهرة في وقت ارتفعت فيه اصوات رسمية وغير رسمية تطالب العراق بسداد ديونه المستحقة لمصر مع الفوائد المترتبة عليها، فإن زيارة السيد الحكيم للكويت حدثت ولما تنتهي بعد أزمة احتجاز أول طائرة عراقية توجهت من بغداد الى لندن مع المدير العام للخطوط الجوية العراقية بموجب حكم قضائي صادر من احدى المحاكم البريطانية بناء على دعوى كويتية مرفوعة ضد الخطوط الجوية العراقية.
وبصرف النظر عما اذا كانت المطالبات المصرية بالديون والفوائد جادة ام لا، وبصرف النظر عما اذا كان العراق سيدفعها ام لا، وبصرف النظر عما انتهت او ستنتهي اليه ازمة الطائرة العراقية ومدير الخطوط الجوية العراقية كفاح حسن، فانه لايمكن بأي حال من الاحوال الحديث عن عهد جديد من العلاقات العراقية ـ العربية، وعقد وتجاذبات ومخلفات الماضي حاضرة في كل محفل وكل مناسبة.

ما يتطلبه العهد الجديد هو طوي صفحات الماضي السوداء وفتح صفحات جديدة بيضاء، وهذا لا يمكن له ان يتحقق من دون نيات صادقة، وتوجهات جادة، وارادات حقيقية، ونظرة واقعية للامور، وتفهم كل طرف لخصوصيات وظروف الاخر.

واذا اردنا ان نحصي ونقف عند الازمات التي اثيرت خلال الاعوام السبعة المنصرمة بين العراق من جهة، والكويت والسعودية وسوريا وايران وتركيا والاردن ودول اخرى مثل مصر من جهة اخرى، نجد انها كانت – وربما ما زالت ـ غير قليلة من حيث العدد، ومتشعبة ومتداخلة من حيث طبيعتها، فهناك ازمات حدودية، وازمات ديون وتعويضات، وازمات مائية وامنية وسياسية تتعلق بطبيعة النظام السياسي الجديد في العراق ومدى تقبله من محيطه العربي والاقليمي، وغيرها.

وقد يكون الكثيرون لاحظوا ان ازمة احتجاز الطائرة العراقية ومدير الخطوط الجوية العراقية في بريطانيا رافقتها تصريحات لوزير النفط العراقي حسين الشهرستاني قال فيها ان العراق دفع اموالا للكويت اكثر مما دفعت المانيا لكل من بريطانيا وفرنسا كتعويضات عن الحرب العالمية الثانية، وجاءت تلك التصريحات في سياق دعوة الشهرستاني الجانب الكويتي الى "اعادة النظر بالموقف من الديون والتعويضات، والعمل مع العراق على تناسي مآسي الماضي التي كلفت العراق اكثر مما كلفت جيرانه، وكان الضحايا العراقيون والخسائر التي لحقت بهم اكثر من غيرهم".

ويرى عدد غير قليل من الساسة والمحللين والباحثين المعنيين بموضوع العلاقات العراقية ـ العربية ان العراق من خلال حكومته وكبار سياسييه أطلق مبادرات وتحركات جادة ومهمة نوعاً وكماً من أجل تعزيز وتحسين علاقات العراق بمحيطه العربي والاقليمي، وهيأ ارضيات ومناخات واجواء مناسبة الى حد كبير لإعادة الامور الى مساراتها الصحيحة، بيد ان التجاوب من الجانب الاخر لم يكن بالمستوى المطلوب، وهذا ما جعل مسيرة العلاقات بين الجانبين تبقى متعثرة ويعتريها الكثير من التلكؤ والارتباك، على العكس تماما من علاقات العراق مع اطراف دولية عديدة، ربما لم تكن مشاكلها وازماتها مع النظام السابق قليلة.

وهذه الرؤية نجدها ايضا لدى نخب سياسية وفكرية وثقافية عربية تقرأ الواقع بموضوعية وحياد، بعيدا عن التشنج والانفعال وعقد الماضي.
وسواء مع الكويت او مع مصر او مع اية دولة عربية او اقليمية تربطها مع العراق مصالح متبادلة وقواسم مشتركة، فان هناك حقائق يمكن ان تشكل في مجملها محاور واطرا مناسبة وعملانية لتنظيم وتوجيه مسار العلاقات، وفق رؤية تختلف بالكامل عن رؤى الماضي.
ومن بين تلك الحقائق ان سياسات النظام السابق انعكست بكل سلبياتها واخطائها ونتائجها الكارثية على محيط العراق، وان بدرجة اقل مما انعكست على الواقع العراقي الداخلي.

والحقيقة الاخرى هي ان العراق اليوم، ليس عراق الماضي، ربما منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى التاسع من نيسان/ أبريل 2003، وهذا ما دفعنا في مناسبات سابقة الى استخدام مصطلح "الدولة العراقية المعاصرة" لتوصيف عراق ما بعد التاسع من نيسان 2003.

والضوابط الدستورية، والسياقات الديمقراطية، والفضاءات الواسعة لحرية التعبير عبر المنابر والقنوات السياسية والاعلامية والفكرية والثقافية المختلفة في الدولة العراقية المعاصرة، كلها تجعل منهج التعايش وبناء علاقات صحية ومتوازنة ومبنية على اساس المصالح والقواسم المشتركة مع الاخرين، هي السائدة والمهيمنة في مقابل اضمحلال وانحسار وتلاشي المنهج العدواني والتآمري القائم على اساس الاستحواذ والاستعلاء وتهميش الاخر.

ومنهج التعايش يمثل في واقع الامر مفتاح الحل لكثير من المشكلات، والمدخل للتأسيس لارضيات مناسبة ـ رصينة وقوية ـ لعلاقات من نوع جديد بين العراق وجيرانه واشقائه واصدقائه، لا يكون فيها هناك طرف رابحا واخر خاسرا.

والحقيقة الاخرى تتمثل في ان هناك جماعات ضغط "لوبي" في العراق وفي دول اخرى لها اجندات ومصالح خاصة تتقاطع تماما مع ما ينبغي ان تكون عليه الامور، تدفع على الدوام الى التصعيد وتضخيم القضايا وخلط الاوراق، وهذه الجماعات تستفيد من وسائل الاعلام المختلفة والمنابر السياسية، ناهيك عن كونها توظف مشاعر وعواطف بعض الفئات والشرائح الاجتماعية بصورة سيئة وسلبية، ويمكن للمتابع ان يلمس بوضوح المنحى الذي تتحرك فيه تلك الجماعات حينما تلوح في الافق بوادر أزمة او تصعيد بشأن قضية معينة بين العراق او أي طرف عربي او إقليمي، فهي بعبارة مقتضبة لا تعمل الا على صب المزيد من الزيت على النار لتزيدها اضطراما!.

ولعل كبار ساسة وزعماء بعض الدول يطرحون تلك الاشكالية امام نظرائهم العراقيين ويطلبون منهم تفهم ذلك، ولا سيما ان هناك هامشا من الحرية يتيح طرح مختلف الاراء والمواقف من خلال القنوات والمنابر المختلفة.

وهذا الاقرار والاعتراف بالاشكالية والدعوة الى تفهمها ربما يمثل مدخلا مناسبا من بين مداخل اخرى، لتصحيح المسارات الخاطئة، وإزالة الهواجس العالقة، وحل العقد الشائكة، فليس من مصلحة أي طرف عربي أو اقليمي، وليس من مصلحة العراق، ان تبقى الانفاس محبوسة على الدوام خشية تفجر ألغام الديون او التعويضات او الامن او المياه في اي وقت من الاوقات.


2010-05-12