ارشيف من : 2005-2008

قمم.. لكي تبقى البيئة في الحضيض!

قمم.. لكي تبقى البيئة في الحضيض!

الباسيفيكي (آبيك) التي تضم 21 بلداً آسيوياً وأميركياً يجمع بينها، إضافة إلى أمور أخرى، كونها مشاطئة للمحيط الهادئ، والتي انعقدت في العاصمة الأسترالية سيدني يومي السبت والأحد الماضيين (8 و 9/9/2007)، وقمة وزراء البيئة في 20 بلداً، منها البلدان الصناعية الثمانية وبلدان أخرى يجمع بين أكثرها كونها الأشد تلويثاً للبيئة في العالم، والتي انعقدت في العاصمة الألمانية برلين يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين (10 و 11/9/2007). وهنالك قاسم مشترك بين القمتين هو المشكلة البيئية، وإن كانت القمة الأولى قد اهتمت بها في جملة اهتمامات أخرى، لكن جعلتها القمة الثانية موضوع اهتمامها الوحيد.‏

القمة الأولى اهتمت إلى جانب مشكلة البيئة، بمشكلة التجارة العالمية، وأثارت مشكلة على صلة بالأزياء، وإشكالات كان بطلها الرئيس بوش. وإذا ما بدأنا من الآخر، أي من الإشكالات، نجد ما استوجبه مجيء بوش إلى أستراليا من إجراءات أمنية تحولت معها مدينة سيدني إلى ما يشبه الثكنة، لكثرة ما أحيط مكان الاجتماع برجال الأمن، لمواجهة التظاهرات التي أدانت غزو العراق من قبل الرئيس بوش، بالمستوى الذي أدانت فيه المتسببين بالكارثة المناخية، وفي طليعتهم بلا منازع الرئيس بوش نفسه. ونجد أيضاً ما أسمته وسائل الإعلام رعونة الرئيس بوش وأخطاءه وهفواته المستهجنة. أولها أنه خلط منذ الجملة الأولى في خطاب ألقاه قبل بدء انعقاد القمة، أمام حشد من رجال الأعمال، بين "أوبيك" (منظمة البلدان المصدرة للنفط) و "آبيك" (منظمة التعاون الاقتصادي لبلدان آسيا ـ الباسيفيكي).. وبعد أن صحح هذه الهفوة عاد إلى القول بأن "هو" (مع عدم احترام الألقاب) أي رئيس الوزراء الأسترالي، دعاه إلى حضور قمة "أوبيك" التي ستنعقد في أستراليا العام القادم، علماً بأن أوستراليا ليست عضواً في الأوبيك، ولن تستقبل اجتماعاً لها العام القادم أو في غيره من الأعوام. وثالثة الأثافي أنه خلط أيضاً بين أستراليا والنمسا بسبب التشابه بين اللفظتين "أوستريان" و"أوستراليان" في اللغة الإنجليزية، حيث قال ما معناه: ان رئيس الوزراء جون هوارد قد زار القوات النمساوية في العراق العام الماضي. ولم يكتفِ بذلك، بل ضاع وهو يحاول الخروج من قاعة الاجتماع، ولم يهتد إلى طريق الخروج إلا بعد أن ساعده هوارد. والواضح ان أخطاء بوش وهفواته ليست ناجمة عن نقص في ثقافته على ما يقوله المغرضون، بل هي بالأحرى تعبيرات عن قلقه وشرود أفكاره وانشغال باله بحرب العراق وتبخر آمال الإمبراطورية العريضة.‏

وإذا ما تركنا بوش لمعاناته وعدنا إلى قمة آبيك، نجد أولاً المصيبة التي أحاقت بالقمة نتيجة الزي الأسترالي الذي اختير كلباس للرؤساء في الصورة التذكارية.. زي جرى استيحاؤه من اللباس الشتوي لرعاة البقر الأستراليين، وجاء قبيحاً وفاشلاً إلى الحد الذي أثار سخرية دور الأزياء في العالم. وثانياً نجد انبعاثاً أخذ شكل المهزلة، للحديث عن ضرورة إحياء دورة الدوحة في مفاوضات التجارة العالمية. فالمفاوضات المذكورة تعطلت قبل سنوات بعد المسيرة الصاعدة للدورات السابقة، ولم تفلح الجهود لإعادة إطلاقها، بسبب تعنت البلدان الغنية وأنانيتها في عدد من الملفات، وخصوصاً في الملف الزراعي. إذ من المعروف أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يصران على انتهاك قواعد التجارة العالمية من خلال المساعدات الحكومية التي تقدم للمزارعين فيهما، ما أدى ويؤدي إلى دمار الإنتاج الزراعي في البلدان الفقيرة نتيجة العجز عن المنافسة. والمهزلة هي في تأكيد القمة، بعد آلاف التأكيدات السابقة التي ذهبت أدراج الرياح، ضرورة استكمال دورة الدوحة. وثالثاً هزلية الحل الذي اعتمدته القمة في مواجهة الكارثة البيئية، والحل هو عبارة عن تعهد "غير ملزم" بتقليص انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري بنسبة 25 في المئة، من الآن حتى العام 2030، كما لو أن الـ75 في المئة غير الخاضعة للتقليص، حتى في حالة الإلزام، لن تكون كافية للإجهاز قبل العام 2030، على ما تبقى من عالم في حالة تأرجح دائم ومتسارع بين حرائق الجفاف والفيضانات والأعاصير وغيرها وغيرها من الكوارث. ويتضمن الحل تعهداً آخر من النوع نفسه بتوسعة رقعة الغابات بمساحات تصل إلى 20 مليون هكتار من الآن حتى العام 2020، (علماً بأن القيمين على الأمور هم أنفسهم مسؤولون بشكل أو بآخر عن عمليات إحراق الغابات التي ينظمها شركاؤهم من المقاولين). وتعهداً آخر بالنظر في قمة بالي التي ستنعقد في كانون الأول/ ديسمبر القادم، في وضع اتفاق يحل محل بروتوكولات كيوتو التي تنتهي صلاحيتها، دون أن تحدث تقدماً يذكر، عام 2012. تعهدات كلامية علقت عليها ناطقة باسم إحدى المنظمات البيئية بأنها تعني شيئاً واحداً: استمرار نوم العالم في فراش متسخ وتحت أغطية متسخة!‏

هل تأتي النظافة من قمة برلين؟ يبدو أن العالم كما يتراءى من خلال قمة برلين، سيكون إضافة إلى الوسخ، عرضة إلى المزيد من جرائم السلب والنهب تحت شعارات مكافحة الانحباس الحراري. فقد تمحورت الاجتماعات باللغة "العلمية" المهذبة حول موضوع "نقل" التكنولوجيا المزعومة النظافة، لكي لا يلفظوا عبارة استغلال البلدان الفقيرة والصاعدة عبر إجبارها على شراء تلك التكنولوجيا من البلدان الغنية بهدف المزيد من إفقارها وتأبيد تبعيتها للبلدان الغنية. وبالطبع ينطوي مفهوم التكنولوجيا النظيفة على الكثير من التسميم العلمي والإعلامي، لأن الحصول على الطاقة من الشمس أو من حركة الرياح والأمواج وما إلى ذلك، قد يتم دون إضرار بالبيئة، لكن صرف تلك الطاقة يؤدي إلى الأضرار ذاتها التي تنجم عن صرف الطاقة المسماة بالأحفورية. وإلى ذلك يقول أصحاب الفكرة ـ على ذمتهم ـ بأن الطاقة النظيفة تعفي العالم من 80 في المئة من المشكلة البيئية، الأمر الذي لا يعني أن العالم قادر على تحمل التأثيرات السلبية للـ20 في المئة المتبقية، والتي لضخامتها المتسترة بالرقم 20 المجرد من الدلالة الواقعية (لأن 20 في المئة من سم قاتل هي أشد فتكاً من 80 في المئة من سم أقل قدرة على الفتك)، ستواصل عملها الهدام من الآن حتى يقتنع العالم كله بالفكرة ويقوم بتطبيقها، برغم ما يكتنفها من صعوبات مالية. ولكن هل يقتنع في وقت نجد فيه أن بوش والكثير من أرباب الصناعات الوسخة في طليعة غير المقتنعين بالفكرة، لأن التحول إلى الطاقة المسماة نظيفة يعني كسر ما يمتلكونه من وسائل الإنتاج وما تحركه من أسواق كسوق النفط واللحم والحبوب والزيوت والسلاح. ومن غير المقتنعين كل أولئك الذين لا يمكنهم شراء التكنولوجيا النظيفة في ظل حقوق الملكية الفكرية. والنتيجة حتى الآن من كيوتو إلى سيدني إلى برلين، واحد/ صفر لصالح الوسخ الحقيقي على النظافة المزيفة. ولكن هل انعدمت السبل والوسائل من أجل نظافة حقيقية؟ لا بالطبع، لكنها لا تزال في مجال اللا مفكر فيه، بل في مجال الممنوع من الدخول في مجال المفكر فيه، لسبب بسيط هو أن الحل لا يحتاج إلى الكثير من التفكير، بل إلى شيء من الإرادة.. والتقوى.‏

عقيل الشيخ حسين‏

الانتقاد/العدد 1232 ـ 14 ايلول/سبتمبر 2007‏

2007-09-14