ارشيف من : 2005-2008
الرجل ـ المكتبة
بعلبك، الشهامة والكرم والشهادة.. زادت على بيوتها.. مكتبة.. في رجل..
عبده مرتضى الحسيني الذي رحل عنا قبل أيام كان الشخصية الثقافية التي تحلم الدول بإيجادها لتبحر وتستمر موغلة في الثقافة والعلوم.. بهدي مركبها..
لوحده خط في دروب الفكر والمعرفة والعلوم والثقافة مئات الرفوف، لوحة بعلبكية رسمها رفيق شرف بشوارب الزيناتي وعنترة، ورصّعها طلال حيدر بنقوشه الهلالية وحبات البيادر التي تطلع من سهلنا نحو أقاصي السهل الممتنع عن العيون.. 
وبالأمس رحل الرجل ـ المكتبة الذي غصت داره الأولى بالكتب فأخرج العيال إلى دار أخرى، ما لبثت هي أن ضاقت.. فأعاد الكرّة.. ولكن صدر الرجل لم يضق.. فأمّم المكتبة وغرق في بحر الحنو على الزوار يقدم لهم معارف ندر ان تجدها في غيرها..
من الروسية إلى الانكليزية والفرنسية و.. الالمانية.. وما بينها، حصاد ستين عجافاً من التجميع والتنسيق.. وأبواب من العلم تفتح آفاقاً..
لم يتاجر بها فـ"زكاة العلم إنفاقه".. لم يجد من يساعده لا دولة ولا مؤسسات.. فخاض في بحرها اللجّي وحيداً، ورفعنا معه الى سلّم الأوائل في صناعة الحرف مجدداً..
عبده مرتضى الحسيني طاف بالكرة الأرضية عبر صندوقة بريد، ما كلّ ولا ملّ ساعيها من نقل الوافد اليها يومياً من أصقاع المعمورة إلى دار الراحل أسفاراً تسد بعض فراغ في دنيا الكتب والمكتبات والمعارف..
حِمل لم يطأطئ كاهل الرجل ـ المكتبة.. فكان يفيض فرحاً مع كل إصدار جديد يصله، يجلسه برفق إلى جانب إخوانه من أوائل الكنوز التي حوتها رفوف مكتبته..
بالامس رحل "المكتبجي" بصمت .. في الدولة التي لا مكان فيها للفقراء، فكيف بالفقراء العظماء.. ولا يُتذكرون إلا بعد الرحيل.. وأحياناً في وقت متأخر جداً.
تذكرت فرحه أول قصاصات متسخة أحضرها الى الدار.. نظّفها، رتّبها ودسّها بين كتب المدرسة، تذكرته يوم لملم ولداي ما تناثر من مكتبتنا إثر التدمير الكلي في عدوان تموز/ يوليو الذي طاول البيت وما فيه.. بيدين ناعمتين انغرست فيهما آثار الزجاج والتراب وعبق الشهادة، فرح الصغيران بما وجدا من "قصص الانبياء" وأعداد "العربي الصغير" و"قصص جحا ونوادره".. وأرشيفهما المدرسي وحقائب اليوم الأخير من الدرس..
البريق في عيونهما كان يشي بفرحة ذاك الفقيه الذي رمى دواته بعد أن حقق مسألة، صارخاً: أين الملوك وأبناء الملوك من هذه اللذة..
سأعلمهما كيف يكونان مثلك.. يلملمان ما تناثر من الكتب ولو من تحت الدمار.. لتبقى المكتبة.. لانه لا خير في دار لا كتاب فيه..
لأننا شعب بات يقرأ، وإذا قرأ فهم .. وإذا فهم علم.. وإذا علم انتصر.. كما بالسيف كذلك بالمكتبة.
مصطفى خازم
الانتقاد/ خلف القناع ـ العدد1204 ـ 2 آذار/مارس 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018