ارشيف من : 2005-2008
مذبحة سربرينيتشا القضائية
يُستَقبَل بقدر كبير من المشاعر المتضاربة. فمن ناحية سنجد أن صدور قرار من قِبَل محكمة دولية بشأن مسؤولية دولة ما في ما يتصل بجريمة إبادة عرقية يشكل تطوراً إيجابياً لا يستطيع أحد أن ينكره. إلا أن القرار الصادر عن المحكمة في هذا الشأن ليس أكثر من نسخة من تلك الأحكام القضائية التي تحاول منح شيء ما لكل طرف وترك كل شيء كما كان عليه.
لم يكن من المفترض أن تعلن هذه المحكمة المسؤولية الجنائية المحددة لأفراد بعينهم؛ فهذا من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة (ICTY). كانت محكمة العدل الدولية، والتي تتعامل مع النزاعات التي تنشأ بين الدول، قد تلقت دعوى من البوسنة مفادها أن صربيا كانت مسؤولة عن المذبحة التي وقعت في سربرينيتشا. وعلى الرغم من أن المحكمة أكدت في قرارها وقوع حادثة الإبادة العرقية، إلا أنها قررت أن صربيا لم تكن مسؤولة عن المذبحة طبقاً للقانون الدولي.
وطبقاً لقرار المحكمة، فإن جنرالات صرب البوسنة الذين ارتكبوا جريمة الإبادة العرقية، ومنهم ملاديتش وكراديزيتش، لم يعملوا باعتبارهم ممثلين لصربيا ولم يتلقوا تعليمات محددة من بلغراد. وعلى هذا فإن جريمة الإبادة العرقية ليس من الممكن أن تنسب إلى صربيا، حتى ولو كانت الحكومة الصربية تدفع رواتب للجنرال ملاديتش وزملائه وتوفر لهم العون المالي والعسكري. كما لم تكن صربيا شريكة في الجريمة، وذلك لأنها على الرغم من نفوذها الكبير على ملاديتش وأتباعه، لم تكن تعلم، في وقت حدوث الإبادة العرقية أن مثل هذه الجريمة كانت ترتكب آنذاك.
إن محكمة العدل الدولية، بتبرئتها لصربيا من الجريمة الأساسية، تكون قد قدمت إلى البوسنة نوعاً من “جائزة المواساة”، حين أكدت أن جرائم القتل التي وقعت في سربرينيتشا ينطبق عليها وصف الإبادة العرقية وهي النتيجة التي انتهت إليها المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة من قبل على أية حال. فضلاً عن ذلك، وطبقاً لقرار محكمة العدل الدولية، فقد انتهكت صربيا القانون الدولي بتقاعسها عن منع جريمة الإبادة العرقية، فعلى الرغم من أنها كانت قادرة على منع المذبحة، إلا أنها لم تفعل،
كما امتنعت عن مساعدة المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة في إلقاء القبض على ملاديتش (الذي ما زال يختبئ في صربيا).
هذا يعني أن قرار المحكمة يشكل محاولة للعب على الجانبين. فلكي تقرر ما إذا كان ملاديتش يتصرف لمصلحة صربيا حين خطط لارتكاب المذبحة في سربرينيتشا وأمر بتنفيذها، طالبت المحكمة بالدليل الذي يؤكد أن المسؤولين الصربيين أرسلوا إليه “تعليمات” محددة بارتكاب جريمة الإبادة العرقية. ومن الواضح أن إثبات صدور مثل هذه التعليمات أمر في حكم المستحيل. ولكن لماذا لم يكن كافياً في نظر المحكمة ثبوت تمويل صربيا للقيادات العسكرية من صرب البوسنة، والارتباط الوثيق بين هذه القيادات وبين القيادات السياسية والعسكرية الصربية؟
الأهم من ذلك أن قرار محكمة العدل الدولية بمسؤولية صربيا عن عدم منع جريمة إبادة عرقية لم تكن ضالعة فيها يعد أمراً غير منطقي وغير مفهوم على الإطلاق. فقد قررت المحكمة أن صربيا كانت مدركة للاحتمالات المرتفعة للغاية لوقوع جريمة الإبادة العرقية، ولكنها لم تفعل شيئاً لمنعها. إلا أن المحكمة زعمت على الرغم من ذلك أن صربيا لم تكن شريكة في الجريمة لأنه “لم يثبت” أن نية ارتكاب جريمة الإبادة العرقية في سربرينيتشا “كانت معلومة لدى بلغراد”.
الحقيقة أن هذه الإفادة محيرة في أفضل تقدير. فلقد تم الإعداد للمذبحة بالتفصيل وتم ارتكابها على مدى ستة أيام (بين الثالث عشر والتاسع عشر من تموز/يوليو). وهل من المعقول أن تكون السلطات الصربية ظلت جاهلة لعمليات القتل التي استمرت لستة أيام، بينما احتلت أخبار المذبحة العناوين الرئيسية للصحف في كافة أنحاء العالم؟ من الصواب والعقل أن نصدق أن الزعماء الصرب كانوا على علم تام بما يحدث، وأن هذا العلم لم يمنعهم قط من الاستمرار في تقديم المعونة العسكرية والمالية والسياسية إلى ملاديتش.
إن المشكلة الجوهرية في قرار محكمة العدل الدولية تكمن في استخدامها لمعيار غير واقعي وغير عملي بالمرة في ما يتصل بإثبات ضلوع صربيا قانوناً كشريك في جريمة الإبادة العرقية. فمن الثابت أن أي شخص قد يعد مذنباً بالاشتراك في جريمة إذا لم يبادر إلى منع وقوعها على الرغم من قدرته على منعها وعلى الرغم من واجبه الذي يملي عليه محاولة منعها، وإذا ما كان ذلك الشخص، بامتناعه عن التدخل، قد ساهم بصورة حاسمة في خلق الظروف التي سمحت بوقوع الجريمة.
الخلاصة أن الناجين من مذبحة سربرينيتشا، والذين كانت البوسنة تسعى إلى حصولهم على التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، لن يحصلوا على أي شيء من صربيا. ولو كان رئيس صربيا السابق سلوبودان ميلوسوفيتش ما زال على قيد الحياة لكان قرار محكمة العدل الدولية قد برأه من تهمة ارتكاب جريمة الإبادة العرقية.
(*) أنطونيو كاسيس كان أول رئيس للمحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة (عشة)، وفي ما بعد شغل منصب رئيس اللجنة الدولية التابعة للأمم المتحدة للتحقيق في دارفور، ويتولى الآن تدريس القانون في جامعة فلورنسا. والمقال ينشر بترتيب مع “بروجيكت سنديكيت” (بالتعاون مع لاروبابليكا).
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018