ارشيف من : 2005-2008

ملفات داخلية بامتدادات خارجية وتأثيرات تفرضها قوانين الانتماء وموازين القوى: الاستحقاق اللبناني بين دمشق وطهران والرياض

ملفات داخلية بامتدادات خارجية وتأثيرات تفرضها قوانين الانتماء وموازين القوى: الاستحقاق اللبناني بين دمشق وطهران والرياض

اللبناني. وجاءت مواقف السفير الأميركي في بيروت جيفري فيلتمان بمثابة ضربة مباشرة للدبلوماسية الفرنسية، وشكّلت خطاً أحمر غير مسموح تجاوزه وسقفاً غير مسموح إسقاطه يدعى "حكومة السنيورة"، وهو ما أفرغ زيارة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير إلى بيروت من فحواها ومعناها، وعكس خيبة متوقّعة وإحباطاً منتظراً للسياسة الفرنسية التي لم تستطع تحقيق اختراق ـ ولو شكلا ـ للمعادلة اللبنانية.‏

وقد تكون الفرملة الأميركية للمسعى الفرنسي جاءت مبكرة بعض الشيء، ولكن يبدو أن واشنطن استشعرت تسارعاً دراماتيكياً للتطورات والمواقف بما يمكن أن يفرض على الولايات المتحدة قيود اللعبة، خصوصاً مع توالي المواقف المؤيدة لمبادرة الرئيس نبيه بري من أكثر من جهة وطرف داخلي وعربي وإقليمي ودولي وأوروبي على وجه التحديد، فجاءت صافرة الحكم الأميركي لتنهي المباراة بخسارة اللاعب الفرنسي في وقت يتحضر اللاعب الفاتيكاني لجولة جديدة في الملعب نفسه، مع إدراكه المسبق بأن دون هذه الجولة عقبات غير موضوعية، بل هي في الواقع محددات سياسية ثابتة وضعتها واشنطن ولن تسمح لأحد بتجاوزها إلا وفق الشروط التي تتناسب ومصالحها في لبنان والمنطقة.‏

هل من مبادرة سعودية جديدة؟‏

وفي موازاة ذلك لا تزال السياسة السعودية تتناغم مع الوقع الأميركي في التعاطي مع الشأن الداخلي اللبناني، ومع أن الرياض نفت على لسان سفيرها في بيروت عبد العزيز خوجة وجود أي مرشح رئاسي لها، إلا أن توافقاً أميركياً ـ سعودياً أفضى إلى تزكية نسيب لحود كموظف يشغل كرسي الرئاسة الأولى، بما يتناسب مع برنامج العمل المحدّد لقوى 14 شباط. وعليه من غير المنطقي تناول الشأن الداخلي دون تلمّس الأثر السعودي بما للرياض من دالّة على ما اصطلح على تسميته "الفريق السني"، وهذا ما يفسّر الجهود الحالية التي يبذلها السفير خوجة لترتيب لقاء في أقرب وقت ممكن بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والنائب سعد الحريري، بعد أن سبق ذلك اتصال من الأخير بالرئيس بري، مع حرص سعودي واضح على ضرورة أن يخرج أي لقاء جديد بين الرجلين بنتائج جيدة، وذلك سعياً لمحو التداعيات السلبية التي أعقبت لقاءات بري ـ الحريري الماراتونية السابقة، وما تلاها من تمييع المواقف والتنكر لاتفاقات تُوصل إليها بضغط أميركي مفضوح ومباشر. وفي حال نجح خوجة في مسعاه فهل يشكّل ذلك عنواناً لمبادرة سعودية جديدة لإخراج لبنان من عنق الزجاجة؟‏

سوريا الغائبة ـ الحاضرة‏

وعلى الرغم من سحب سوريا قوتها العسكرية وجنودها وإلغاء أي أثر سوري في لبنان، ما زالت دمشق تثبت نفسها على الساحة اللبنانية في كل مفاصل الحركة الدبلوماسية أو في مواقع القرار، سواء عبر استحضارها اليومي والمستمر على ألسنة دعاة "السيادة والاستقلال" الذين قلبوا البندقية من الكتف السوري إلى الكتف الأميركي، أو عبر تقدير الثقل السوري في نسج العلاقة مع لبنان وموقعها في المنطقة على المستوى الاستراتيجي، وتقييم حضور دمشق ودورها ضمن منظومة الدول الفاعلة في المسرح العالمي.‏

ولا يتردد المسؤولون السوريون في إعلان مواقفهم حول الملف اللبناني من دون مواربة، لا سيما إذا تعلق الأمر بالشأن الإسرائيلي، من منطلق تثبيت تلازم المسارين إزاء الملف التفاوضي، وعدم المساومة في قضية الأراضي المحتلة وترسيم الحدود. كما يؤكدون حرصهم على استقرار لبنان وحريته واستقلاله وسيادته، وهو ما برز بشكل جلي في الدعم السوري الفعلي وليس الكلامي، للجيش اللبناني في مواجهات نهر البارد، بالسلاح والعتاد والمحروقات، وذلك بخلاف السياسة الأميركية والغربية عموماً التي تطنب في إعلان المواقف والتصريحات وتمعن في إغداق الوعود الكلامية، وتستخدم الأموال العربية في عمليات التمويل.‏

ولم يكن موقف دمشق الراهن ليختلف عن الفترة السابقة، وقد عبّر عنه نائب الرئيس السوري فاروق الشرع بأن سوريا تقبل بما يقبل به اللبنانيون وتؤيد "انتخاب رئيس وفاقي لبناني، عربي الانتماء، يؤمن بلبنان المقاوم العربي، وبالعلاقات الأخوية مع سوريا وكل الأشقاء العرب". وهذا الموقف ليس انحيازاً أو احتضاناً لجهة لبنانية محددة، بل هو انعكاس طبيعي لنهج يتسم به المسار السياسي السوري، وكان البعض من قوى 14 شباط يتغنّى سابقاً بانتمائه لهذا المسار، قبل تبديل جلده وتعديل لونه وتغيير لغته الكلامية والسياسية. وعليه فإن عواصم القرار الدولي تسلّم اليوم بأن أي استحقاق في لبنان لا يمكن له أن يتم دون استحصال الموافقة السورية في الحد الأدنى، إن لم يكن يحمل في طيّاته تأكيدات وضمانات بعدم تحوّل لبنان من بلد شقيق إلى بلد معادٍ لسوريا.. وهنا لبّ المشكلة.‏

إيران.. لا حدود ولا تحديد‏

وعلى غرار الحضور السوري لا يمكن عزل إيران عما يجري في لبنان، خصوصاً بعد أن اعتمدت الدبلوماسية الأميركية خطاباً أقحمت فيه إيران في تفاصيل السياسة اللبنانية، سواء عبر دمجها ضمن ما أسمته المحور السوري ـ الإيراني، ومشت قوى 14 شباط السيادية في الأثر، أو عبر ربط طهران بعلاقتها وتأثيرها في حزب الله والشيعة بشكل عام في لبنان، وهو أمر لا ينفيه الإيرانيون ويجاهر به حزب الله والشيعة. وقد حاولت أطراف السلطة وشخصياتها ترجمة الخطاب الأميركي بالتظلل تحت هذا العنوان، عبر شن هجمة طائفية شرسة وإثارة النعرات المذهبية، خصوصاً من قبل الثنائي النائب وليد جنبلاط وسمير جعجع وموظفيهما. إلا أن ذلك لم يلقِ غباراً على صورة الواقع الذي دأبت طهران على إعلانه، بأن دبلوماسية إيران "مبنية على دعم إجماع اللبنانيين وتوافقهم وتشجيع جميع الأطراف على الحلول التوافقية والبحث عن المجالات المناسبة للحل".‏

وانطلاقاً من فهم واقع العلاقة الدينية بين إيران والشيعة في لبنان وفهم الارتباط العقائدي بأمور السياسة والحكم، يمكن فهم امتداد الأثر الإيراني وتجاوزه الحدود المحلية، وهو ما يجعل دور طهران يخرج من الحدود والتحديد ليطال كل الشؤون المتصلة بالشيعة في العالم. وتأسيساً على ذلك يمكن فهم ورصد الحضور الإيراني في الكثير من الملفات المركزية وأهمها:‏

* حركة الاتصالات والتنسيق بين الرياض وطهران التي تلامس بشكل مباشر قضايا العالم الإسلامي برمته.‏

* الدور الإيراني في حفظ استقرار المنطقة انطلاقاً من العراق، وهو ما يفسّر الاندفاع الأميركي لإجراء مفاوضات مع الإيرانيين بشأن الملف العراقي.‏

* الانفتاح الفرنسي على طهران والبحث خلال زيارات المسؤولين الفرنسيين بشأن الملف اللبناني.‏

* جبهة الممانعة التي تشكّلها إيران مع كل من سوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين وصولاً إلى فنزويلا ـ شافيز ضد الحلف الأميركي ـ الإسرائيلي.‏

* الدور الإيراني في معادلة التوازن الدولية من خلال قدراتها الذاتية وعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع كل من روسيا والصين وغيرهما من الدول التي تصنفها واشنطن ضمن "محور الشر"، في مقابل الولايات المتحدة ومجموعة الأنظمة التي تدور في الفلك الأميركي.‏

وبالتالي لا يمكن حصر الحضور الإيراني ضمن دور محلي ضيّق على النمط الذي تحاول واشنطن الإيحاء به في ما يتصل بالملف اللبناني. وفي الخلاصة فإن التاريخ اللبناني ـ لمن لا يقرأ التاريخ ـ يشهد في كثير من المحطات المفصلية على أن الشيعة كانوا الوحيدين الذين تميزوا بمواقف لا امتدادات خارجية لها، وكان لها الأثر في صياغة لبنان الحديث.‏

محمد الحسيني‏

الانتقاد/ العدد 1233 ـ 21 أيلول/سبتمبر 2007‏

2007-09-21