ارشيف من : 2005-2008
بوش أمام الطريق المسدود
الأميركيون من الاستماع إليه بعد مرور أكثر من أربع سنوات على بداية الحلقة الثانية من حرب كان من المفترض عدم وقوعها، إذا ما أخذنا المزاعم التي كانت تقول بأن العراقيين سيستقبلون "المحررين" الأميركيين بالورود والرياحين. ولكنه نجح على ما يبدو في إيقاع خصومه الديمقراطيين في حيص بيص، من خلال التلطي وراء شهادات قائد القوات الأميركية والسفير الأميركي في العراق، وهي الشهادات التي اعتمدت وفقاً للعديد من المعلقين الأميركيين، على أشكال التضليل والتلاعب بالأرقام كافة للخروج بنتائج تقول الشيء وضده عن إحراز التقدم على هذا الصعيد، وعدم إحرازه على صعيد آخر، وعن الانسحاب وعن تمديد الاحتلال في الوقت نفسه.
معلقون أميركيون عديدون فندوا دعاوى التقدم وقدموا أرقاماً ووقائع عن تزايد ارتفاع منسوب العنف في العراق، خاصة بعد الخطة الأمنية وتردي الأوضاع المعيشية وتصاعد العداء للأميركيين في صفوف العراقيين باختلاف أطيافهم، بمن فيهم أفراد الجيش وقوات الشرطة والجهات الحكومية. كما قللوا من أهمية الوعود بسحب 5700 جندي من الآن حتى نهاية العام، وحوالى 25 ألفاً حتى منتصف العام القادم، والحديث عن إمكانية سحب عدد مماثل بحلول كانون الثاني/ يناير 2009. والسبب في ذلك أن مئة ألف جندي سيبقون في العراق بعد هذا التاريخ، حتى اذا تحققت الوعود، وسيبقون على ما لمّح إليه بترايوس، بالانسجام مع كلام للمرشحة هيلاري كلينتون، مدة تسع أو عشر سنوات أخرى. هذا يعني وفق ما يقوله كثيرون من النواب والشيوخ، أن الحكومة الأميركية التي تكرس معظم اهتمامها منذ سنوات لإدارة الوضع في العراق، ستكون في ظل عدم إحراز التقدم المنشود في حال انشغال كامل ومستديم بهذا البلد. النائب الجمهوري آيك سكيلتون رئيس لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب، ذهب به الخوف من هذا الوضع إلى أبعد من ذلك عندما اعتبر أن من المفترض بالجيش الأميركي أن يكون قادراً على بسط سيادته في أي بقعة من بقاع الأرض تتعرض فيها المصالح الأميركية للخطر، وأن إرسال 160 ألف جندي إلى بقعة واحدة هي العراق يعني العجز الأكيد عن توفير أعداد أخرى لإرسالها إلى أمكنة أخرى!
هنالك إذن بغض النظر عن إخفاق الحرب على العراق وعن التكلفة البشرية والمادية لهذه الحرب، وما أدى إليه ذلك من التراجع الكبير في شعبية بوش والمحافظين الجدد، هنالك إحساس واقعي بالتعب على مستوى الجيش الأميركي وعلى مستوى دافعي الضرائب الأميركيين.. وهذا الإحساس الذي تجلى في مظاهرات الاحتجاج على الحرب التي كان آخرها مظاهرة السبت الماضي (15/9/2007) أمام البيت الأبيض والكونغرس، هو أحد أهم الأسباب التي تحول دون قيام بوش ومعاونيه بحشد ما يمكنهم حشده من مسوغات تضليلية للمطالبة بزيادة عدد الجنود الأميركيين في العراق، كما فعلوا في بداية العام الحالي.
فالواقع أن صعوبات فعلية تجبر القيادة العسكرية على سحب أعداد من الجنود ثم إعادتهم إلى العراق بعد أن يكونوا قد نالوا قسطاً من الراحة، بسبب العجز الفعلي عن تأمين قوات جاهزة وعدم الجرأة على المطالبة بفرض التجنيد الإلزامي في ظل الاعتقاد السائد بعظمة الجيش الأميركي النظامي. والواقع أيضاً أن ممانعة الجنود الأميركيين في الذهاب إلى العراق وإعراض أوساط واسعة من الشبيبة حتى عن الالتحاق بالجيش، هما في أساس التوجه الرسمي نحو الاعتماد المتزايد على المرتزقة الذين يُجندون تحت أسماء الشركات الأمنية، والذين بلغ عددهم في العراق أكثر من ثمانين ألفاً. وبالطبع فإن هذا التوجه الذي يتبناه أمثال ديك تشيني، جنباً إلى جنب مع الاعتماد المتزايد على المجندين من المجنسين الجدد، يعكس دخول الإدارة الأميركية في منقلب أخلاقي من شأنه أن يجهز على ما تبقى من مزاعم الإنسانية والديمقراطية التي لا تزال "تنطلي" على الكثير من الأميركيين. كما أن الميزانيات الضخمة التي تُخصص للمرتزقة والتي يذهب معظمها إلى المقربين من بوش على شكل عمولات واختلاسات، بدأت تفعل فعلها في تسعير سخط الشارع الأميركي.
وعلى ذلك، ونظرا إلى مجمل الأوضاع الداخلية والخارجية المحيطة بالحرب على العراق، يبدو أن جميع الطرق قد أصبحت مقفلة أمام بوش، بمقدار ما بات كل من خياري الانسحاب أو الاستمرار في الحرب مفتوحين على المزيد من تعمق الأزمة. وقد وضع بعض المحللين تصوراً عن الاحتمالات التي يمكن أن تساعد الرئيس بوش على الخروج من الأزمة: منها حدوث تطور كبير باتجاه نصر أميركي في العراق، وهو احتمال ضعيف جداً. ومنها حدوث انقلاب يقوده "المتطرفون" في باكستان يسمح لـ"بروباغندا" المحافظين الجدد بالتهويل على الأميركيين بخطر نووي إسلامي لم يكن مأخوذاً في الحساب. ومنها حدوث هجمات إرهابية جديدة على الولايات المتحدة. ومنها إفلاس بورصة المضاربات العقارية في أميركا بحيث يجد الأميركيون أنفسهم أمام خيارين: إما التخلي عن العراق وإما التخلي عن أنفسهم! لكن المحلل الذي يبدو كأنه يوحي للرئيس بوش بالمخارج الممكنة والتي يسهل "اصطناعها" على أجهزة الاستخبارات المعروفة بانعدام عفتها في حبك مثل هذه الحلول، قد فاته أمر مهم جداً هو في أساس هواجس بوش وإدارته، فالتلفيقات والتخريجات قد تكون قد فعلت فعلها في تلك المراحل التي اقتصرت فيها المواجهات بين أميركا وحلفائها من جهة، والآخرين من جهة ثانية، على استعراضات محسومة النتائج سلفاً للمعسكر الأول بسبب انعدام العزم على المواجهة والمقاومة في المعسكر الثاني، لكنها عديمة الفائدة ما دامت قوى مثل إيران وسوريا وفصائل المقاومة في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها قد أثبتت قدرتها ليس فقط على الصمود في وجه العدوان، بل أيضاً على إلحاق الهزيمة بالجيوش الموصوفة بأنها لا تُقهر. تلك هي العقبة الكأداء في وجه الرئيس بوش، وتلك العقبة هي ما يفسر اقتصار الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران وغيرها من قوى الصمود خلال السنوات الأخيرة، على التهويل والتصعيد في التهويل. وإذا كان التصعيد في التهويل قد بلغ مداه الأقصى خلال الأيام القليلة الماضية، مدعوماً بصفقات التسلح الضخمة لكل من "إسرائيل" والمعتدلين العرب، وبسيناريوهات مستوحاة من هوليود عن العدد الهائل من المواقع الإيرانية المنوي ضربها بشكل مفاجئ ومتزامن، فإن من يطلقون التهديدات من بوش وغيتس وبترايوس والقادة العسكريين الأميركيين وغيرهم، يناقضون أنفسهم عندما يتحدثون في الوقت نفسه عن أرجحية الخيارات الدبلوماسية، أو حتى عندما يتراجعون قبل أن يجف حبر تصريحاتهم، عن اتهام هذه الجهة أو تلك بدعم الإرهاب وتسريب السلاح والمقاتلين. هبّة ساخنة وهبّة باردة، لكنها لن تغير شيئاً في الواقع، حتى ولو عاد جميع الأميركيين إلى الاصطفاف وراء سياسات بوش، وحتى لو اصطنعت أجهزة الاستخبارات انقلاباً هنا أو هجمات إرهابية جديدة على نيويورك وواشنطن، فإنها لن تغير شيئاً ما دامت إرادة المقاومة قائمة، وما دامت "إسرائيل" والقوات الأميركية في المنطقة ليست بعيدة عن مرمى الصواريخ ذات الشحنات الشديدة الفعالية وذات المفاعيل القادرة على تغيير شكل المناطق.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد 1233 ـ 21 أيلول/ سبتمبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018