ارشيف من : 2005-2008
من بغداد إلى الجمعية العمومية وجامعة كولومبيا... سقوط أميركي شامل!
193 خطيباً بينهم 99 رئيس دولة منهم، بالنظر إلى درجة الحدة في الموضوعات المطروحة، الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، والرئيس الأميركي جورج بوش، والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي تضطلع بلاده، منذ بداية أيلول/ سبتمبر الحالي بالرئاسة الدورية لأعلى هيئة مقررة في المنظمة الدولية (مجلس الأمن الدولي). الموضوع الرئيسي الذي يستأثر بالاهتمام هو المشكلة المناخية التي انعقد بشأنها لقاء دولي تمهيدي ترأسه الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، تحت شعار السعي من أجل الحيلولة دون نجاح المحاولات الهادفة إلى منع عقد مؤتمر دولي بشأنها في منتجع بالي الإندونيسي في كانون الأول/ ديسمبر القادم. والمعروف أن هدف ذلك المؤتمر هو وضع جدول زمني لمحادثات يفترض أن تفضي، مع نهاية العام 2009، إلى اتفاق بشأن تسريع وتكثيف الحد من الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري. وبعد التوصل المنشود إلى هذا الاتفاق، يفترض أن يحل محل المرحلة الأولى من اتفاقية كيوتو التي ينتهي العمل بها في حدود العام 2012. خمس سنوات إذاً من الانتظار، في وقت يدفع فيه العالم ثمناً باهظاً، منذ سنوات، لتفاقم الكارثة البيئية المتصاعدة، قبل التوصل، ربما، إلى اتفاق، لا يبدو أنه سيحل جزءاً ولو يسيراً من المشكلة التي لم تتمكن من حلها بروتوكولات كيوتو، تلك البروتوكولات التي، برغم هزالها، رفضت من قبل الولايات المتحدة، بدواعي حماية نمط العيش الأميركي، ضاربة بذلك عرض الحائط بإجماع دولي لا سابق له، على الالتزام بتلك البروتوكولات. وكما هو الشأن مع البروتوكالات، بات الموقف الأميركي معروفاً من الاتفاق الافتراضي الجديد. فالرئيس بوش أعلن أكثر من مرة رفضه القاطع لأية اتفاقات ضاغطة وملزمة، مفضلاً على ذلك ما يسميه بالإجراءات الطوعية المدعومة بنقل التكنولوجيا. وما ينبغي فهمه من هذا الكلام هو إبقاء الأمور على ما هي عليه مع فتح المجال أمام إدخال وسائل جديدة لإنتاج الطاقة المسماة بالخضراء عن طريق استخدام الرياح والأمواج والطاقة الشمسية وغيرها، وكل ذلك يتم عبر الاعتماد على الخبرة والتكنولوجيا الباهظتي الثمن واللتين سيفترض بالبلدان الفقيرة استيرادهما من البلدان الصناعية المتقدمة. موضة بدأت بالانتشار فعلاً بدعم فعال من قبل كبريات شركات التأمين والمصارف الباحثة عن مجالات لتوظيف أموالها.
فمنظمة مشروع "الكشف على الكربون" المتمركزة في لندن والتي تضم 315 مصرفاً وشركة تأمين تحرك استثمارات بـ14 تريليون دولار، بدأت بالضغط على الحكومات والشركات بهدف الكشف عما تتسبب به من انبعاثات غازية وعن الإجراءات التي تعتزم القيام بها بهدف الحد من أخطار الانحباس، وذلك ضمن إطار مشروع لإعادة الهيكلة الاقتصادية والصناعية... ما ينبئ، بعد ورشة إعادة الهيكلة التي دمرت اقتصاديات العالم الثالث في ظل وصفات البنك والصندوق الدوليين، بورشة كونية ضخمة من الثورات التي ستحول إلى خردة معظم ما يقوم عليها النظام الانتاجي والاستهلاكي السائد في العالم، واستبدال ذلك بتجهيزات جديدة ومولدة لانبعاثات لا تقل خطراً عن الانبعاثات الراهنة. وبالطبع، لا حرج في ذلك ما دام أن التوظيفات المالية هي المهم تحت ستار مكافحة المشكلة المناخية. وبالطبع، فإن الجهات المستفيدة من ذلك تقول وتفعل بانتظار أن تولد في العالم صحوة حقيقية تضع المشكلة في إطارها الصحيح وتجد لها الحلول الناجعة بعيداً عن مطامع أصحاب التوظيفات الذين وجدوا في المشكلة باباً واسعاً للمزيد من إثراء الأثرياء على حساب الفقراء.
وإذا كانت المشكلات السياسية التي تهتم بها الدورة الحالية للجمعية العمومية، من القوة الدولية ـ الإفريقية في دارفور، إلى العقوبات المطلوبة أميركياً بحق برمانيا، إلى الإعراض ـ تلبية للرغبة الأميركية والإسرائيلية ـ عن مطلب جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، قد توافرت على معالجات شبيهة بتلك التي توافرت عليها المشكلة المناخية، فإن "المشكلة الإيرانية" اتخذت مساراً مختلفاً ومناقضاً للرغبات الأميركية. وقد بدأت المشكلة خارج إطار الجمعية العمومية، مع رفض شرطة نيويورك السماح للرئيس الإيراني بزيارة موقع برجي التجارة العالمية، وخصوصاً مع ما حدث في جامعة كولومبيا حيث ألقى نجاد محاضرة حاول فيها طرح وجهة نظر بلاده حول مسائل في مقدمتها الملف النووي الإيراني. لكن الصرح الجامعي الأميركي الذي يفترض به أن يكون علمياً، تحول، باسم حرية الرأي والتعبير، إلى مسرح حقيقي للابتذال الوقح حيث كال المجتمعون، من رئيس الجامعة إلى آخر الطلاب الذين طغى عليهم العنصر اليهودي، سيلاً من الشتائم غير اللائقة للرئيس الإيراني. أما "التهم" التي وجهت إليه فتراوحت بين دعم إيران لفصائل المقاومة في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، والتنكيل بالشاذين جنسياً في إيران، وخصوصاً مواقف نجاد المشككة بالمحرقة والداعية إلى توطين الإسرائيليين في البلدان المسؤولة عن ارتكاب المحرقة، إضافة بالطبع إلى الملف النووي. وبالطبع، يمكن تصور ردود الفعل، في مثل هذا الجو غير الحضاري الذي أسهمت في تسعيره الصحافة الشعبية ذات المستوى الغوغائي، على شروحات نجاد حول المشكلة الفلسطينية والاضطهاد الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ الانتداب البريطاني حتى اليوم، وحول نية إيران في عدم إنتاج سلاح نووي لأسباب منها عدم ناجعية هذا السلاح في الحيلولة دون انهيار الاتحاد السوفياتي أو دون الورطة الأميركية الحالية في العراق...
ولأن المناظرة على شاشات التلفزة وأمام الرأي العام تحول دون التهريج والسباب اللذين أفقدا جامعة كولومبيا صفتها العلمية، فقد امتنع الرئيس بوش، كما سبق له أن فعل عام 2006، عن الاستجابة لدعوة نجاد الذي تحداه بالبروز إليه في مناظرة عامة. وعلى كل حال، فإن هرب بوش من المناظرة يشكل، بمنظور التاريخ والحقيقة، هزيمة لا تقل نكاية عن الهزيمة التي كان سيمنى بها فيما لو برز إلى المناظرة. وإذا كان بوش قد هرب من هذه المناظرة، فإن سبل الهرب لم تتوافر له في جلسة الجمعية العمومية. وهناك كرر خطابه المعروف عن الديموقراطية ومكافحة الإرهاب، والذي وصفه مراقبون عديدون بالسطحية والتسطيح، فيما استمع الحضور بانتباه إلى نجاد وهو يلقي واحدة من الخطب النادرة في تاريخ السياسة الدولية لجهة الدعوة إلى ائتلاف عالمي من أجل السلام، ولجهة التذكير بالعدل والأخلاق والحقوق في العلاقات بين الدول، وخصوصاً لجهة رفع الخطاب القرآني والخلاصي من على منبر الأمم المتحدة لأول مرة في تاريخها. وكل ذلك بعيداً عن الحالة الغوغائية التي اختصت بها أكبر الجامعات الأميركية، كمظهر من مظاهر السقوط الأميركي الشامل.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد / العدد 1234 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018