ارشيف من : 2005-2008
جريمة شركة "بلاك ووتر".. وتزييف الحقائق
بغداد ـ عادل الجبوري

أرادت صحيفة "اندبيندنت" البريطانية أن تقف على حقيقة ما جرى بدقة في ساحة النسور في جانب الكرخ من العاصمة بغداد، في السادس عشر من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، لذلك قامت بإرسال مندوب خاص الى موقع الحدث. ويبدو ان ما شاهده مندوب الصحيفة وما سمعه من اطراف مختلفة اضاف قدرا اكبر من الغموض والضبابية على صورة الحدث حتى بدت معالمه وملامحه الحقيقية غائبة او شبه معدومة. وبعيدا عن مطالعة تقرير مندوب الـ"اندبندنت" فإن ما تصرح به جهات عراقية وأميركية، يفترض انها رسمية، لم يفض بأي حال من الاحوال الى توضيح واجلاء ولو بعضا من معالم وملامح الصورة، ان لم يكن قد حصل العكس من ذلك، وهنا يمكن ان نشير الى اكثر من تصريح بهذا الشأن كمثال او امثلة تؤكد ما ذهبنا اليه.
فوزارة الداخلية العراقية اكدت بشكل واضح في بيان لها وجود وثائق وادلة تدين شركة "بلاك ووتر" الامنية الاميركية في حادثة ساحة النسور التي راح ضحيتها اكثر من خمسة وعشرين مدنيا عراقيا بين قتيل وجريح جراء اطلاق نار بصورة عشوائية من قبل افراد في تلك الشركة، قيل انهم كانوا يتولون حماية موكب احد الدبلوماسيين العاملين في السفارة الاميركية في بغداد، واشار مدير مركز القيادة الوطني في وزارة الداخلية اللواء الركن عبد الكريم خلف الى "ان التحقيق الذي اجري في حادثة ساحة النسور خلص الى ان حرس شركة بلاك ووتر يتحملون مسؤولية قتل المدنيين، وان هذا الاستنتاج بني على افادات شهود عيان وشريط فيديو صورته كاميرات مثبتة على مبنى قيادة الشرطة الوطنية في ساحة النسور".
ويقول ضابط عراقي رفض الكشف عن اسمه في تصريحات ادلى بها لوكالة الصحافة الفرنسية في بغداد "ان كل المعلومات التي اعلنها الاميركيون بأن الموكب تعرض لاطلاق نار من اسلحة خفيفة خاطئة وليست صحيحة".
ولعل الرواية الأقرب الى الواقع هي ما نقله احد شهود العيان الذي اصيب بعدة رصاصات من اسلحة افراد "بلاك ووتر" ونقل على اثرها للمستشفى، حيث يؤكد انه لم يكن هناك أي اعتداء على الموكب الذي كان يحميه عناصر الشركة المذكورة، ولكن يبدو انهم ضاقوا ذرعا بالزحام الشديد وارادوا ان يفتحوا السير بأي طريقة كانت. وما يعزز مقولة عدم وجود مبررات معقولة ومقبولة لفتح النيران وقتل الابرياء، هو التصريحات والاقوال المتناقضة الصادرة من الشركة نفسها ومن مسؤولين اميركيين في واشنطن. فالشركة ادعت في بيان لها بعد وقوع الحادث "ان اولئك الذين قتلوا كانوا متمردين، وان الحراس تصرفوا بشكل قانوني لحماية ارواح اميركية في ساحة قتال"!.
بينما قالت الناطقة باسم السفارة الاميركية في بغداد ميرنبي نانتانغو ان "تصرف فريق بلاك ووتر كان رد فعل على هجوم بسيارة مفخخة"، واكثر من ذلك اشار الملحق الاعلامي في السفارة يوهان سكومونسيس الى "ان السيارة المفخخة كانت تقريباً قرب المكان الذي كان مسؤولون من وزارة الخارجية الاميركية يعقدون اجتماعاً فيه، وهذا هو السبب في الطريقة التي تصرّف بها رجال بلاك ووتر".
أما مندوب صحيفة انديبندنت فيؤكد انه وجد انه "لا اساس للقصة التي تتمسك بها شركة بلاك ووتر، لأن جميع الذين قابلتهم اكدوا انهم شاهدوا او سمعوا اطلاق رصاص من قناصة، واكدوا ان اطلاق الرصاص لم يقتصر على رجال قافلة الحراسة، بل جاء من مروحية تابعة للشركة نفسها يبدو ان الحراس على الارض كانوا على اتصال بها ووجهوها لاطلاق الرصاص على الموقع، ما ادى الى رفع عدد القتلى والجرحى". واياً يكن السبب والدافع والمبرر وراء ما حصل في ساحة النسور فإن ذلك دفع الى طرح قضية الوضع القانوني لشركات الحماية الامنية الاجنبية العاملة في العراق، ومرجعيتها القانونية، هل هو القضاء العراقي، ام انها تتمتع بحصانة، بحيث انه ليس بإمكان القضاء العراقي مساءلتها ومحاسبتها وفق أحكام القانون مهما فعلت؟
حتى الان تعمل شركة "بلاك ووتر" ومعها بحسب مصادر رسمية عراقية مئتا شركة امنية من جنسيات مختلفة منها شركة "غلوبال سيكيورتي" البريطانية التي تتولى مهمة حماية مطار بغداد الدولي، وفق قانون وضعه الحاكم المدني الاميركي السابق في العراق بول بريمر، عرف باسم القانون رقم 17 الذي يوفر حصانة كاملة لشركات الحماية الأمنية، ويجعلها بمنأى عن أية مساءلة أو محاسبة من قبل أية جهة عراقية، وبقيت الأمور على حالها ولم يبادر مجلس النواب العراقي (البرلمان) الى الغاء ذلك التشريع وسن تشريع اخر.
هذه الاشكالية الكبيرة والخطيرة طرحت نفسها بقوة بعد جريمة "بلاك ووتر" في ساحة النسور، حيت تعالت الأصوات الداعية من جهات مختلفة الى معالجة الامر، واخضاع هذه الشركة او اية شركة اخرى للمحاسبة والعقوبة في حال تجاوزت الضوابط او ارتكبت اية جريمة. في وقت انفتح امام "بلاك ووتر" ملف اخر قد يكون هو الاكثر حساسية وخطورة بالنسبة إليها والى وزارة الحرب (البنتاغون) باعتبار ان تلك الشركة متعاقدة مع الوزارة للعمل في العراق منذ صيف عام 2003 بمبلغ يزيد على مئة مليون دولار.
وتمثل الملف الاخر في ظهور ادلة وارقام تشير الى ضلوع الشركة بتصدير اسلحة الى العراق بطريقة غير مشروعة، الامر الذي نفته الشركة في بيان رسمي لها معتبرة "ان المزاعم بأنها نقلت معدات بدون ترخيص الى العراق لا اساس لها، وان الشركة ليس لها علم بأي موظف يصدر أسلحة بشكل غير مشروع".
ولا يبدي عدد من المسؤولين العراقيين تفاؤلا حيال نتائج التحقيق مع "بلاك ووتر"، التي عادت للعمل في العراق بعد اربعة ايام من ايقافها، فوكيل وزارة الداخلية العراقية لشؤون الاستخبارات اللواء حسين علي كمال يقول ان تحقيقات سابقة في مخالفات لشركة بلاك ووتر لم توصل الى نتائج جيدة، بل لم تظهر اية نتيجة، معبرا عن احباطه من نتائج تحقيقات جديدة لا تنتهي الى وضع حلول لتلك المخالفات، بينما يؤكد وزير الامن الوطني شيروان الوائلي انه برغم استعداده للبدء بالتحقيقات المشتركة مع الجانب الاميركي حول مخالفات بلاك ووتر، الا انه حتى الان لم يلمس اية اشارة تدل على التعاون بين الطرفين، وان الجانب العراقي لم يتسلم اية معلومة بهذا الخصوص. وطبيعي ان ما يفصح عنه هؤلاء المسؤولون العراقيون يكشف عن جزء من المشكلة وليس كلها، والتشاؤم هنا اكثر واقعية من التفاؤل، ولكن اغلب الظن لن تخبو الاصوات الداعية الى وضع حد للاستهانة بأرواح العراقيين الابرياء وكراماتهم من هذا الطرف وذاك، ولن تخبو الاصوات الداعية الى انهاء فاعلية قانون (17) واستبداله بقانون اخر من مجلس النواب العراقي وليس من غيره.
الانتقاد / العدد 1234 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018