ارشيف من : 2005-2008
ساركوزي وبداية العد التنازلي
ساركوزي يتكلم كما ولو أنه نابليون يوم كان، قبل هزائمه الماحقة الأخيرة، قادراً على غزو موسكو أو قطع طريق الهند على بريطانيا من مصر أو فلسطين. أو، إذا ما أخذنا مثالاً أكثر قرباً من الناحية الزمنية، كما ولو أنه جورج بوش الأب يوم أخضع العراق إلى أربعين يوماً متواصلا للقصف الجوي والصاروخي المكثف والشامل في ظل اطمئنانه الكامل إلى إستراتيجية صدام حسين التي اقتصرت على عدم المقاومة أملاً في أن تأتي لحظة يوقف فيها الأميركيون هجومهم من تلقاء أنفسهم. فهو مع كونه قد خفض من سقف التهديدات التي أطلقها وزير خارجيته، برنار كوشنير، تجاه إيران، عندما تكلم قبل أيام عن الخيار الأسوأ، أي العسكري، عاد وأكد بأن اللجوء إلى القوة غير مطروح في هذه المرحلة. ما يعني أنه مطروح في مرحلة لاحقة، قد تأتي بعد أشهر أو أيام.
المثير في لغة ساركوزي الحربية أنها تصدر عن جهة غير مؤهلة لتنفيذ تهديداتها السوبرمانية اللهم إلا إذا كان ساركوزي يفكر على طريقة سلفه جاك شيراك يوم أثار ذهول العالم وسخريته معاً عندما تحدث، في ظل تخبطات سياساته الداخلية والخارجية، عن إمكانية لجوء فرنسا إلى استخدام سلاحها النووي في وجه ما أسماه بالإرهاب الإسلامي! وحتى في هذه الحالة، لا يبدو أن مثل هذه التصريحات المتزاوجة مع تصريحات معاكسة من النوع المنفتح، ولكن المشروط، على إيران أو سوريا أو فنزويلا، والتي أعقبت الانفتاح الساركوزي على ليبيا وما أثاره ذلك من لغط وملابسات، لا يبدو أنها ستؤمن لساركوزي مناخات انتصارية كتلك التي أمنتها له قفزاته البهلوانية في التعاملات مع شركائه الأوروبيين والتي أفضت، برغم النجاحات الشكلية المتحققة، إلى تأجيج الجمر الكامن تحت رماد علاقات فرنسا بأولئك الشركاء. فأول ردود الفعل الأوروبية على التصريحات الفرنسية التي انتقلت من التهديد العسكري إلى التهديد بعقوبات اقتصادية أكثر تشدداً ومن خارج الأمم المتحدة، جاءت من أول الشركاء، أي من ألمانيا التي أعلنت بشكل واضح معارضتها لمثل هذه العقوبات، علماً بأنها البلد الوحيد المعني بالملف النووي الإيراني السلمي من خارج مجلس الأمن. لطمة حقيقية لساركوزي من الشريك الأوروبي الأول، وسيكون لها ما وراءها بالتأكيد في ظل عجز تلفيقة المعاهدة الأوروبية "المخففة" التي طلع بها ساركوزي بالذات عن التخفيف من الأثقال التي بات يرزح تحتها كامل البناء الأوروبي. ضربة أخرى تلقاها ساركوزي من الشركاء الأوروبيين رداً على عجز فرنسا عن الوفاء بالتزاماتها المطلوبة أوروبياً في مجال الإصلاحات المالية. فقد كان ساركوزي قد التزم عن فرنسا بتقليص العجز المالي في بلاده إلى نسبة 2،4 بالمئة من ناتجها الخام للعام الحالي. لكن العجز المتراكم منذ سنوات ظل في حدود 4 بالمئة وسط فشل الخطط المتعاقبة في كبح جماحه، حيث وصل العجز المزمن إلى 42 مليار يورو منها حوالي 12 ملياراً عجزاً في صناديق الضمان الصحي. وفي هذا الإطار، صرح جان كلود تريشيه، رئيس البنك المركزي الأوروبي، بأن الوضع المالي في فرنسا أمام صعوبة كبيرة، وأن الأرقام تظهر بشكل واضح تقصير فرنسا بالمقارنة مع شركاء أوروبيين آخرين. كما تحدث رئيس الوزراء الفرنسي نفسه، فرنسوا فيون، عن وضع مقلق لصناديق الدولة، واعترف بأنه على رأس دولة في حالة إفلاس وهشاشة. وقد أثار هذا الوضع جدلاً حامياً حتى داخل الأكثرية اليمينية الحاكمة، وانعكس هبوطاً حاداً في شعبية ساركوزي.
إذاً، وبعد أشهر قليلة على وصوله إلى الإليزيه، بدأ عهد ساركوزي بالاهتزاز داخل فرنسا بشكل يوحي بأن ولايته ستشهد دخول فرنسا في عهد جديد من التوتر الاجتماعي والسياسي، إضافة إلى المزالق الخارجية الشبيهة بالتنطح الحربجي لمواجهة مشكلات الشرق الأوسط، خصوصاً عندما يقترن ذلك بسعي ساركوزي المحموم للالتحاق بعجلة السياسة الأميركية من جميع الأبواب، وفي مقدمتها باب العودة إلى الحلف الأطلسي والإجهاز على آخر أنفاس الديغولية التي منحت فرنسا فرصة تاريخية للقطع مع ماضيها الاستعماري ولفتح صفحة أكثر انسجاماً مع الشعارات الإنسانية التي كان لفرنسا شرف تسجيلها في التاريخ الحديث، والتي أصبحت، منذ رحيل ديغول، أثراً بعد عين.
ع.ح.
الانتقاد / العدد 1234 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018