ارشيف من : 2005-2008

الاستحقاق الرئاسي بين الأصول الدستورية والتسويات السياسية

الاستحقاق الرئاسي بين الأصول الدستورية والتسويات السياسية

بقلم: أحمد موسى دروبي
تتعدد الطرائق التي تتبعها النظم السياسية في انتخاب رئيس الجمهورية وأهمها ثلاث هي: إما انتخابه من الشعب مباشرة (الولايات المتحدة وفرنسا)، وإما انتخابه من جانب هيئة خاصة (الجمهورية الثالثة والرابعة في فرنسا والجمهورية الخامسة قبل التعديل الدستوري الصادر عام 1961)، وإما انتخابه من قبل البرلمان نفسه (إيطاليا).
والدستور اللبناني اعتمد الطريقة الثالثة، حيث نصت المادة 73 بعد تعديلها بالقوانين الدستورية الصادرة في 17 تشرين الأول 1927 وفي 22/5/48 (التجديد استثنائياً لبشارة الخوري) و24/4/76 (الإجازة الاستثنائية بانتخاب رئيس الجمهورية قبل المدة المحددة دستورياً) على ما يلي:
"قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر يلتئم المجلس بناءً على دعوة من رئيسه لانتخاب الرئيس الجديد، وإذا لم يدع المجلس لهذا الغرض فإنه يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق أجل انتهاء ولاية الرئيس".
وحول شروط انتخاب رئيس الجمهورية نصت المادة 49 من الدستور بعد تعديلها بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 على ما يلي: "ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي".
تثير اليوم هذه المادة بعض المسائل القانونية التي يجدر بنا توضيحها وتفصيلها:
أولاً: بالنسبة الى النصاب الخاص لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية: ما هو النصاب القانوني المطلوب لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية؟ هل هو أكثرية الثلثين المطلوبة لانتخابه في الدورة الأولى، أم الأكثرية المطلقة الكافية لانتخابه في دورات الاقتراع التي تلي؟
لقد أثير في أكثر من مرة الجدل القانوني حول النصاب المطلوب، ويرى بعض رجال القانون أنه يكفي ليكون الاجتماع البرلماني قانونياً أن يضم نصاب الجلسات العادية المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور، أي الغالبية المطلقة من مجموع أعضاء النواب.
والدليل على ذلك أن الدستور عندما يتطلب لموضوع ما نصاباً غير النصاب العادي، ينص عليه بشكل صريح لا يدع مجالاً لأي شك أو تأويل. كما أن هذا التفسير هو الذي يؤمن بنظرهم التطبيق السليم للدستور واستمرارية المؤسسة الدستورية، ذلك أنه باعتماد أكثرية الثلثين نعطي الأقلية الحق بتعطيل جلسة انتخابات الرئاسة بمجرد عدم حضورها إلى المجلس في جلسة الانتخاب.
إلا أنه يُرد على هذا القول بأن الممارسة البرلمانية قد استقرت على اعتماد أكثرية الثلثين لتأمين النصاب، حيث يعتبر بعض فقهاء القانون الدستوري أن الاعتبارات السياسية والطائفية هي التي أملت اعتماد أكثرية الثلثين لتأمين النصاب القانوني، حتى لا يسمح في ظل مجلس نيابي طائفي لطائفة معينة بالتفرد باختيار رئيس الجمهورية. وإن كان التعديل الدستوري الصادر في 21/9/1990 الذي أقرّ مبدأ المناصفة في توزيع المقاعد النيابية قد جعل من تلك الاعتبارات السياسية والطائفية التي كانت تفرض اعتماد أكثرية الثلثين أقلّ ضرورة من ذي قبل.
وأياً يكن الأمر، كان من الضروري في معرض التعديل الدستوري، إفراد فقرة خاصة في المادة 49 حول النصاب الخاص لانعقاد جلسة الانتخاب لحسم الأمر وإنهاء الجدل الدستوري حول هذا الموضوع.
ثانياً: وأما بالنسبة الى الأكثرية الخاصة لانتخاب رئيس الجمهورية، فيدور حالياً جدل دستوري حول تحديد الأكثرية المفروض توافرها لانتخاب رئيس الجمهورية: هل هي مجموع أعضاء المجلس النيابي، أم الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه، أي النصاب العادي المحدد في المادة 34 من الدستور؟
وبعبارة أخرى، هل غالبية الثلثين في دورة الاقتراع الأولى والغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التالية، المفروضتين في المادة 49 لانتخاب رئيس الجمهورية، محسوبة بالنسبة الى مجموع أعضاء المجلس أو إلى غالبيتهم المطلقة التي يتألف منها النصاب العادي؟
إن الأخذ بالنصاب العادي في الانتخابات الرئاسية يشكّل مخالفة واضحة للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور، لكون المعنى الذي يبدو متوافقاً مع روح الدستور هو أن النصاب البرلماني المطلوب لانتخاب رئيس الجمهورية إنما يتناول مجموع أعضاء مجلس النواب، وهذا الأمر يعود الى جملة من الأسباب القانونية والمنطقية، التي من أبرزها:
1 ـ حيث انه بموجب الفقرة الأولى من المادة 49 من الدستور اللبناني المعدل عام 1990، يعتبر رئيس الجمهورية رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن، يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور، ويرئس المجلس الأعلى للدفاع، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة.. فبالتالي تعتبر عملية انتخاب رئيس الجمهورية من الموضوعات الأكثر أهمية وتأثيراً في الحياة السياسية والبرلمانية اللبنانية، بحيث من المنطقي أن يحظى انتخاب الرئيس العتيد بموافقة غالبية غير عادية تعزز مركزه، الأمر الذي يقود عملياً الى القول بأن النص الدستوري قد اشترط مسبقاً توافر أغلبية برلمانية أكبر من الأغلبية العادية في موضوع انتخاب رئيس الجمهورية.
2 ـ إن القول بضرورة اعتماد النصاب العادي المحدد في المادة 34 من الدستور عند انتخاب رئيس الجمهورية هو قول مردود، لأنه بحسب المادة 75 من الدستور ذاته: "إن المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة اشتراعية"..
وهذا النص وحده كافٍ لإزاحة المادة 34 من الدستور عن التطبيق في مجال المادة 49، لأن المادة 34 مرتبطة بقيام المجلس بوظيفته التشريعية ـ حيث لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات، وإذا تعادلت الأصوات سقط المشروع المطروح للمناقشة ـ في حين أن المادة 49 ترسم له كيفية توليه وظيفته الإضافية، وهي انتخاب رئيس الجمهورية، المستقلة دستورياً ومنطقياً عن وظيفته التشريعية.
3 ـ ونظرا الى مضمون المادة 49 نجد أن تلك المادة قد فرضت صراحة أكثرية خاصة من مجلس النواب، بحيث تكون الأغلبية المفروضة للدورة الأولى لانتخاب رئيس الجمهورية الثلثين من هذه الأكثرية، أي من عدد أعضاء مجلس النواب.
وقد أشار النص بعد ذلك إلى أنه يكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي، ولا بد هنا من تطبيق الحكم ذاته قياساً واعتبار الأكثرية في الدورات التي تلي، مؤلفة من مجلس النواب أيضاً، لأن المنطق لا يستسيغ الاختلاف في القاعدة العائدة لحالة دستورية متعاقبة، بقيت واحدة في جوهرها.
4 ـ إن الغاية من القانون تكمن في خدمة المجتمع وتذليل متناقضاته، والطريقة الواجب اتباعها لإدراك هذه الغاية تقوم على أساس استنباط تفسير معين للقانون يتوخى المجتهد في اعتماده إحقاق الحق وتحكيم العدل والوجدان، في اطار المصلحة العامة العليا.
من هنا يُطرح التساؤل التالي: هل من المعقول، بل من المصلحة الوطنية، أن يأتي رئيس الجمهورية منتخباً بنتيجة اقتراع جارٍ على أساس النصاب العادي؟ لا شك في أنه سيكون معبراً عن إرادة نفر من النواب وممثلاً بالتالي لأقلية من الشعب!
إن النص على تحويل المجلس النيابي الى هيئة انتخابية تتولى الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة من دون مناقشة أي عمل آخر (المادة 75)، وكذلك فرض إجراء هذا الانتخاب في مهل مقيدة (المادتان 73 و74)، يشكل دليلاً قاطعاً على الأهمية القصوى التي يوليها الدستور لعملية انتخاب رئيس الجمهورية باعتبارها من العمليات الأساسية في حياة لبنان، لأن الدستور قد أراد أن يكون رئيس الجمهورية رئيساً للدولة وليس لفئة معينة من الناس، وبنزعه عنه كل مسؤولية برلمانية قد رفعه الى مصاف الحكم الأعلى لتوحيد كلمة الوطن بين عناصره وأحزابه كافة، وبالتالي فلا يكون من المعقول أن يُنتخب رئيس الجمهورية بالأغلبية البسيطة وبالنصاب العادي، لكي يكون وليد أقلية من النواب لا تنعكس فيها أماني الشعب ومطاليبه. اضافة الى ذلك فإن العرف قد استقر على اعتماد الأكثرية المطلقة من مجموع أعضاء المجلس الذين يؤلفونه قانوناً، أي مجموع عدد النواب الأحياء، إلا إذا شغر في ظروف سياسية طبيعية أحد المقاعد في الأشهر الستة الأخيرة من ولاية المجلس.
## إن السجالات والأزمات السياسية التي تشهدها حالياً  الحياة اللبنانية تجعل من عملية انتخاب رئيس الجمهورية عملية صعبة التحقيق ومعقدة للغاية، نظراً للتناقضات الكبيرة والاختلافات الجذرية في الرؤى السياسية والأيديولوجيات العقائدية التي تتبناها وتعمل على تطبيقها القوى الحزبية والتيارات السياسية الموجودة على الساحة اللبنانية. لذلك ومن أجل التوصل الى حلٍ مُرضٍٍ للجميع ومُراعٍ للمصالح الوطنية العليا، نرى وجوب التوصل الى صيغة قانونية توافقية بين أقطاب وممثلي النسيج السياسي اللبناني تُعالج موضوع الانتخابات الرئاسية، وهذه الصيغة تقوم على أساس:
1 ـ إجراء تعديل دستوري مؤقت يُنتخب من خلاله رئيس توافقي مدة سنتين، أي الى حين موعد إجراء الانتخابات النيابية المقبلة التي ستسفر عن وجود برلمان وطني، يقوم بدوره بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، يمارس صلاحياته الدستورية طيلة مدة السنوات الست المحددة له أصولاً، ويكون مُدافعاً عن الإرادة  الشعبية والمصالح الوطنية العليا المعبر عنها بواسطة أصوات أعضاء المجلس النيابي المعطاة في الانتخابات الرئاسية.
2 ـ تشكيل حكومة إنقاذ وطني من الأقطاب السياسية، تتولى مهمة تسيير الأمور العادية للمواطنين والتخفيف من وطأة الأزمات السياسية المحلية الى حين إجراء الانتخابات الرئاسية.
ومن ثم القيام بتشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الانتخابات الرئاسية، تتولى إدارة شؤون البلاد وتساعد على حل الأزمات السياسية عبر دعمها إجراء الحوار الوطني والنتائج الإيجابية التي قد تُسفر عنه. وعلى أن تنتهي ولاية تلك الحكومة مع إجراء الانتخابات النيابية المقبلة التي ستتمخض عنها لاحقاً حكومة أكثر تمثيلاً للإرادة الشعبية والمصالح الوطنية.
إن هذه الصيغة التوافقية المشار إليها أعلاه لا يمكن أن يُكتب لها النجاح ما لم تحظَ بموافقة ودعمٍ اقليمي ودولي خارجي، وأولى خطوات هذا الدعم يجب أن تبدأ عند وقف شن حملات التحريض المذهبي والاتهام السياسي الصادرة عن المندوب السامي الأميركي والدائرين في فلكه.
الانتقاد/ العدد 1231 ـ 7 أيلول/سبتمبر 2007

2007-09-07