ارشيف من : 2005-2008

ثقافة المقاومة بين العودة إلى الذات ونموذج الوعد الصادق (2)

ثقافة المقاومة بين العودة إلى الذات ونموذج الوعد الصادق (2)

كتب محمد حسين بزي

يمكن وصف منظومَتَيْ ابن نبي وشريعتي بثلاث كلمات هي: الحرث والانغراس والتعمير..

كما يمكن وصف نموذج الوعد الصادق من خلال العلاقة التفاعلية بين أداء رجال المقاومة وخلفيّتهم الفكرية والثقافية: حرثوا وغرسوا وعمّروا..

 وبعبارة أسْطَع وأضْحَى: المقاوِم هو ذات منغرسة اجتماعياً في علائقيّة تعميرية متراحمة، وجذور تثميرية راسخة ومستقبليّات واعِدة.

 المقاوِم خرج من فرديّته ليتحوّل إلى مواطن صالح داخل الدار العالمية للثقافة والفكر والأخلاق والعمل والعبادة.

 ولكي ندخل إلى التلافيف الجوهرية الرابطة بين المفهوم النظري للعودة إلى الذات والمقصد العملي لثقافة المقاومة، لا بد لنا من الدخول إلى الثلاثيات المفقودة التي جذّرها المقاومون من خلال نموذج الوعد الصادق.

ثلاثية الانتصار:

ما هو النصر؟

كلّ فردٍ جعل لنفسه هدفاً أو مجموعة أهداف ثم عمل على تحقيقها وأتمها، فهذا الفرد يكون قد انتصر.

وكل جماعة ـ أو فرد ـ وضعت نصب عينيها هدفاً أو مجموعة أهداف وعملت على إنجازها وتحقيقها وحققتها، فهذه الجماعة تكون منتصرة.

وكل فردٍ أو جماعة واجهت عدواً ومنعته من تحقيق أهدافه، فإن هذا الفرد وتلك الجماعة تكون منتصرة.

فالانتصار له وجهان: إما أن تحقق الجماعة أهدافها، وإما أن تمنع الجماعة عدوّها من تحقيق أهدافه.

فإذا حققت الجماعة أهدافها، وفي الوقت نفسه منعت العدو من تحقيق أهدافه، فالنصر يتحول إلى "نصْرَين".

وهناك نصر ثالث، هو شخصية القائد.. فالقائد الجامع للصفات القيادية الحاسمة، من الوعي والإيمان والمسؤولية والنزاهة والإطلاع على دقائق الأمور ومتابعة شؤون الناس باهتمام، يلعب دوراً مهماً في إيصال الجماعة إلى أهدافها.

ولكن يطرح التساؤل التالي: هناك الكثير من القادة الذين جمعوا هذه الصفات أو المواصفات بل أكثر منها، ولم ينجحوا في إيصال الجماعة إلى أهدافها، فكيف تصف شخصية القائد بأنها "نصر"؟

وفي معرض الإجابة يمكن القول إن شخصية القائد المنصوص عليها هنا، جمعت عنصراً آخر لم يتوافر للكثير من القادة الصالحين عبر التاريخ، ألا وهي ثقة شعب العدو وبعض قادة ذلك العدو من المدنيين ـ إن صحّ التعبير ـ والعسكريين بهذا القائد وصدقه وشفافيته وأخلاقه! وهذا عامل حاسم في اعتبار شخصية القائد بحدّ ذاتها "نصراً".

جذّرت مسلكية المقاومة في مواجهة الحرب العدوانية التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل" على لبنان "نموذجاً" لهذه الثلاثية الرائدة التي قلّما جمعتها أمة في تاريخها، حيث استطاعت أن تحقق أهدافها وأن تمنع العدو من تحقيق أهدافه باعتراف العدو الصريح والواضح، وأن تمتلك في الوقت عينه شخصية القائد التي تختزن النصر، والتي حملت اسم "نصر الله".

النصر ليس نصراً واحداً، بل هو ثلاثة انتصارات..

ثلاثية "الخلفية الإيمانية والإعداد والقيادة الحكيمة.

الخلفية الإيمانية:

شكّلت الخلفية الإيمانية بكل تشعّباتها أرضية خصبة للمقاومين درجوا عليها منذ نشأتهم ورضعوها في طفولتهم، واشتدّت لحمتها في بيئتهم التي تُعتبر مدرسة حقيقية لتخريج الثائرين على الظلم، الرافضين للفساد، المتعطشين للعدل والحرية، الذين يرفضون الذلّ والهوان، ويتمسكون بالكرامة والعزّة.. ولا حياة لأفراد هذه البيئة خارج هذه التوصيفات.

إنها مدرسة متكاملة للمسؤولية الدقيقة أمام الله تعالى، ومن هنا نفهم كيف يثبت هؤلاء المقاومون أمام الأهوال، ويُخاطَبون بـ"تزول الجبال ولا تزول أقدامكم".. هذه الحقيقة أنتجتها خلفية المقاوِم الإيمانية.

الإعداد والأخذ بالأسباب:

لم يترك المقاومون شؤونهم للمصادفات، ولم يركنوا للظروف على علاّتها، بل استمدوا من قرآنهم ضرورة الإعداد ما استطاعوا من عناصر القوة لمواجهة عدوّهم، فأخذوا بقوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ".. فأعدّوا ما استطاعوا بالفعل، وبذلوا جهداً كبيراً في عملية الإعداد.

وهي عملية الأخذ بالأسباب العِلمية والعملية، وهذه الأسباب تشمل التدريب العملي على ما في أيديهم، وتشمل أيضاً تطوير ما في أيديهم من وسائل ومعدات. وقد نجحوا في هذا الأمر نجاحاً كبيراً، شهد به العدو قبل الصديق.

القيادة الحكيمة:

إن القيادة تلعب دوراً مهماً في صنع النصر، بل تكون هي بحدّ ذاتها "نصراً".. إلا أن القيادة الحكيمة لا تأتي أولاً، وإنما تأتي ثالثاً في ترتيب الأولويات، لأن القائد الحكيم بالغاً ما بلغ، لا تنتفع الأمة منه في تحقيق النصر ما لم يكن لديه من الأتباع ثلّة مؤمنة مدربة واعية! فكم من قائد حكيم مرّ في تاريخنا وهو يجهد لإيجاد مجموعة رسالية تنهض معه لتحقيق المبادئ ونشر الخير والفضيلة، فلم يجد..

ثلاثية الخلفية الإيمانية والإعداد والقيادة الحكيمة، جلاّها مجاهدو المقاومة الإسلامية بأسطع تجلياتها في معركتهم الأخيرة في مواجهة العدوان الإسرائيلي الوحشي على لبنان.

ثلاثية المقاوم: "المقاوم المجاهد، المقاوم الصامد، المقاوم الرافد":

المقاوم المجاهد:

المقاوم المجاهد هو المقاوم الذي امتشق سلاحاً في مواجهة العدو، أو هو المقاوم الذي يقوم بأي دور تسنده إليه القيادة العسكرية في الميدان.

هذا المقاوم هو الذي يصنع النصر في الدرجة الأولى، وهو الذي يتحمل مسؤولية مواجهة العدو، وعليه تتوقف "بوصلة" المعركة.. فإن انهزم انهزمت الجبهة، وإن ثبت وصبر انتصرت الجبهة.. فهو "ميزان" المعركة، وعليه تتوقف نتائجها.

هذا المقاوم عرفته الأمة في المواجهات الأخيرة، إن لم نقل عرفه العالم أجمع.

المقاوم الصامد:

المقاوم الصامد هو المواطن الذي ثبت في مكانه وصمد في أرضه، وكان مكانه من الأرض يقع ضمن الدائرة التي يستهدفها العدو بنيرانه.

نموذج هؤلاء المقاومين شهدناه بكثرة، ومن بين هؤلاء كان العدد الأكبر من شهداء الوطن. بل إن الهجمة الشرسة للعدو تركّزت على هذه الفئة من المقاومين بعد اليوم الخامس تقريباً من بداية العدوان.

المقاوم الرافد:

وهو الشخص أو الهيئة أو الجماعة أو المؤسسة التي ترفد المقاومين الصامدين والمجاهدين بأي نوع من أنواع الرِّفادة.

والمقاومون الرافدون ليسوا بالضرورة من المواطنين اللبنانيين حصراً، بل قد يكونون على امتداد العالم أجمع.. ووقفة الشعب المصري العزيز المشهودة المشكورة أجلى من أن توصف.

وأنواع الخدمات التي قدمها المقاومون الرافدون كانت كثيرة ومتنوعة، سواء على مستوى الكلمة المعبِّرة في الإعلام أو في التجمعات المناصرة للمقاومة أو في التظاهرات الحاشدة.

هذه الثلاثية المباركة للمقاومين المجاهدين والصامدين والرافدين، تجلّت ناصعة بأبهى صورها في مواجهة العدوان الإرهابي الصهيوني الأميركي الأخير على لبنان.

هاتان الثلاثيتان عايشناهما ميدانياً، ومنهما نتوصل إلى السياقات الحضارية الدافعة المتضمنة ثلاثية علي شريعتي: "المنهج، الإيمان، التضحية"، التي تساوقها ثلاثية مالك بن نبي التفاعلية: "عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء".

يرمز شريعتي بكلمة "المنهج" إلى كل أبواب المعرفة التي يستطيع الإنسان أن يراكمها خلال مشوار حياته، وخصوصاً تلك الأبواب من المعرفة التي تساعد الفرد على خدمة الإنسان في مجتمعه قبل الانتقال إلى خدمة الإنسانية في المجتمع الكبير.

ويؤكّد شريعتي أن "المنهج" يجب أن يكون موضوعياً وجريئاً، بحيث يمكّن الإنسان من اكتشاف الحقائق. ويحمل هذا المنهج في طيّاته على الدوام ملامح الإسلام الأولى بكل عناصرها الإنسانية، لناحية تأصيل العلاقات الاجتماعية القائمة على الأخوة والمحبة والتعاضد.

أما "الإيمان" فإنما يكون من وجهة نظر شريعتي "أمام كعبة الله"، أي في تقديس كل ما له ارتباط بالذات الإلهية، سواء على مستوى العقيدة أو على مستوى فهم التعاليم واحترامها، أو لناحية تثميرها والالتزام بها.

وأما "التضحية" فتكون أمام "بيوت الناس". ورمز شريعتي بذلك إلى أن تحقيق المبادئ على مستوى المنهج وعلى مستوى الإيمان بحاجة الى الدماء من أجل تحقيق العدل والحرية والعيش الكريم لعامة الناس.

ثلاثية في مقابل ثلاثية..

لا نستطيع أن نحصي عدد المؤسسات العاملة التي أسستها المقاومة في لبنان لخدمة الناس، ولا الخدمات المتنوعة التي يقدمها أفرادها لعامة الناس من كل الألوان والأطياف، ولكننا نستطيع أن نقول إن خير ما يعبّر عن منهج المقاومة في إطار الخدمات ما جاء على لسان سيد شهدائها الأمين العام السابق لحزب الله الشهيد السيد عباس الموسوي مخاطباً المواطنين: "سنخدمكم بأشفار عيوننا".. وكفى بها كلمة معبِّرة.

"المنهج الإيماني" في شرع المقاومين يتمحور على إيصال النفع للناس وخدمتهم، حتى لو كلفهم ذلك "التضحية" بأنفسهم وبذل دمائهم.

وإذا كان المقاوم يعمل في سبيل الله ويجاهد في سبيل الله ويُستشهد في سبيل الله، فكيف تقول إنه يعمل ويجاهد ويُستشهد في سبيل الناس؟

وفي الإجابة نقول إن النتيجة واحدة، سبيل الله هو سبيل الناس. وبقليل من التأمل نجد أن ما نسبه الله تعالى في القرآن لنفسه على المستوى الاقتصادي والمادي والاجتماعي هو للناس بلا منازع، قال تعالى: "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ". والحال أن الله تعالى غني عن العالمين، والقرض يكون لعباد الله الفقراء والمحتاجين.

وضمن هذا السياق اكتنز شريعتي مفهوماً ابتكارياً، حيث قرّر أن القرآن الكريم قد ابتدأ بكلمة (الله) واختتم بكلمة (الناس).. بل إن السورة الأخيرة من القرآن الكريم قد سُميت بسورة الناس.. وبمجرد أن نفتح القرآن ونلقي نظرة عادية على أوله وآخره، نلتفت إلى أن الإسلام يعتمد أساساً على كلمة "الله" وكلمة "الناس"، من دون أي التفات للَّون والعنصر والشكل والطبقة. فالحركة القرآنية بين المُفتتح والمُختتم في الكتاب العزيز هي حركة تبادلية بين الله والناس.

والآيات والنصوص التي تشهد على ارتباط رضا الله تبارك وتعالى بخدمة الناس أكثر من أن تُحصى في هذه العجالة.

لقد سطّر المقاومون ثلاثية "المنهج الإيماني المُضحّي" جليّة واضحة أمام أعيننا كأروع ما تكون التضحية في مواجهتهم العدوان الأميركي الإسرائيلي الغاشم على لبنان.

(*) كاتب لبناني

الانتقاد/ العدد1213 ـ مقالات ـ 4 ايار/مايو2007

2007-05-04