ارشيف من : 2005-2008
أصابع أميركية في دارفور وسائر أفريقيا
اتفاقيات لا تُحصى منذ نشوب الأزمة في العام 2003 بين الفصائل المتنازعة في دارفور والمنقسمة إلى معسكرين: أحدهما تدعمه الحكومة السودانية والآخر يدعمه الغرب والعديد من "المنظمات الإنسانية" غير الحكومية. وكل هذه الاتفاقيات آلت إلى الفشل بعد خرقها، باعتراف العديد من المراقبين المحايدين، من قبل جماعات المتمردين.

والخروق تتم وفق اعتراف المراقبين أيضاً بإيحاءات أميركية، حيث ان الولايات المتحدة لا تخفي رغبتها في زعزعة السودان، تلك الزعزعة التي أخذت في قاموس الرئيس بوش اسم الفوضى البناءة. أما ما يهدف إليه تعطيل المبادرات وإفشال الاتفاقيات فهو تعميق المشكلة في إقليم دارفور بالشكل الذي يسمح بالشروع في تدويلها تمهيداً لدخول الشركات الأميركية والغربية لاستغلال الثروات الضخمة في ذلك الإقليم الذي تزيد مساحته على مساحة فرنسا، والذي يحتضن ترابه كميات كبيرة من النفط واليورانيوم والنحاس. وبالفعل نجحت المساعي الأميركية في حمل مجلس الأمن الدولي على إصدار ثلاثة قرارات كان آخرها ذاك الذي قضى بإرسال قوات دولية إلى دارفور تحت الفصل السابع.
لكن الصعوبات التي عانت وتعاني منها تجارب القوات الدولية في أكثر من بلد، اقتضت البدء ـ بانتظار إعداد القوة الدولية ـ بإرسال قوات أفريقية أقل كلفة، مع إمكانية حصر التداعيات السلبية لفشلها داخل الإطار الأفريقي الذي يظل أكثر قدرة، في ظل حال البؤس التي تعيشها أفريقيا، أكثر قدرة على استيعاب الصدمات.
وقد بدأت القوة الأفريقية عملها كقوات مراقبة تضم مئات العناصر قبل أن يصل عددها حالياً إلى سبعة آلاف رجل جُمّعوا من (26) بلداً من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأفريقي.
والواضح أن الأوساط المحركة للقرارات الدولية لم تشأ في ظل التوجه نحو الاستعانة مستقبلاً بقوات دولية أو حتى أطلسية، أن توفر للقوة الأفريقية ما يكفي من مستلزمات القدرة لإحلال الأمن والاستقرار في دارفور. فهذه القوة تعاني نقصا كبيرا في التجهيز والتمويل والانسجام وسط بيت دبابير حقيقي تمثله عشرات التنظيمات المتنازعة. وقد سبق لهذه القوة أن تعرضت لضربات موجعة، منها تلك التي قتلت في نيسان/ أبريل الماضي خمسة جنود سنغاليين.
لكن الضربة الأشد إيلاماً كانت تلك التي تعرض لها يوم السبت الماضي (29/9/2007)، أحد معسكرات القوة الأفريقية في المنطقة الجنوبية من الإقليم، حيث قتل عشرة جنود وجرح مثلهم، في حين اعتبر أربعون جندياً في عداد المفقودين. وقد جاءت هذه العملية بعد أيام من زيارة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون للسودان، ضمن إطار مسعى سلمي تجاوبت معه الحكومة السودانية، وخصوصاً في ظل الاستعدادات الجارية على قدم وساق لمفاوضات السلام المزمع عقدها في العاصمة الليبية طرابلس الغرب، في السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري.
ولا بد من الإشارة إلى أن جماعات المتمردين لا تخفي معارضتها لهذه المفاوضات وتضع شروطاً للمشاركة فيها، من نوع التوصل إلى هدنة قبل الذهاب إلى طرابلس. من هنا تذهب التحليلات باتجاه القول بأن تلك الجماعات أو بعضها، هي التي نفذت الهجوم الأخير.. ولا يقتصر الأمر على التحليلات وحدها، فالجيش السوداني أدان الهجوم واتهم بعض قوى المتمردين بالمسؤولية عنه، مشيراً إلى أنه وصل إلى مكان الهجوم أكثر من ثلاثين عربة، وأنها كانت مجهزة بأسلحة شديدة الفعالية.
وإذا كان من الممكن وصف هذه الشهادة بأنها قد تكون "مجروحة" لصدورها عن طرف غير محايد، فإن مسؤولين في القوة الأفريقية تركوا للتحقيق أمر تحديد الجهة الفاعلة. لكن قائد هذه القوة مارتين أغواي، كان واضحاً عندما صرح بأن الهجوم هو من صنع المتمردين. وبالتالي يمكن القول إن مفاوضات طرابلس الوشيكة قد تجد نفسها أمام الباب المسدود، لإفساح المجال أمام المطلب الأميركي القاضي بتسريع استبدال القوة الأفريقية الحالية ـ بعد أن ثبت فشلها ـ بقوة أخرى أفريقية ودولية هذه المرة، يصل تعداد أفرادها إلى (26) ألف جندي ورجل أمن.
هل تفلح القوة الجديدة حيث أخفقت القوة الحالية؟ وهل تؤمن لها دوليتها مزيداً من الحظوظ بالنجاح؟ لا يبدو أن المسؤولين الأميركيين متفائلون بذلك، ففي الوقت الذي يتزايد فيه عتب الرئيس بوش على القوات الدولية والأطلسية العاملة في أفغانستان بسبب تقصيرها في التعامل مع الوضع الذي يميل يومياً لمصلحة المقاومة، يبدو أن الإدارة الأميركية قد اقتنعت بضرورة أن تزج أصابعها العسكرية مباشرة في المسرح الأفريقي.. هل يأتي ذلك تعبيرا عن القوة في سياق توسيع دائرة التدخل العسكري الأميركي في العالم، أم تعبيرا عن الضعف والانكفاء إلى مواقع تبدو أكثر قابلية لتسهيل الحركة الأميركية بعد الهزائم التي تحيق بأميركا يومياً في الشرق الأوسط، وبعد اصطدام التوسع الأميركي في أوروبا الوسطى والبلقان والقفقاس بعزم روسي فعلي على مواجهة هذا التقدم؟ الاحتمال الثاني يبدو أكثر وجاهة.
ومهما يكن من أمر، فقد قررت إدارة الرئيس بوش استحداث قيادة عسكرية في أفريقيا تحت اسم "آفريكوم"، يكون مركزها بداية في ألمانيا، قبل أن يصار إلى نقلها لاحقاً إلى بلد أفريقي لم يُكشف النقاب عنه. وإذا كانت ليبيريا قد أعلنت استعدادها للقبول بتمركز هذه القيادة فوق أراضيها، فإن وزير الدفاع الأوغندي روث نانكابيروا، أظهر حماسة أكبر عندما اعتبر أن "آفريكوم" فكرة جيدة جداً على مستوى توطيد الاستقرار ومكافحة الإرهاب في القارّة. كلام يُفهم بالطبع على ضوء ارتباطات بعض القادة الأفارقة بعجلة السياسة الأميركية ولهاثهم وراء "التنفيعات" المالية التي يجرها وضع "آفريكوم" موضع التنفيذ.
لكن هؤلاء لا يتكلمون باسم أفريقيا، فهنالك الكثيرون من الأفارقة الذين يعتقدون أن الوجود الأميركي في القارة لن يحمل غير المزيد من المتاعب. كما أن جميع بلدان القسم الجنوبي من القارّة تعارض هذه الفكرة. فقد اعتبر مسؤولون زامبيون أنها تشكل انتهاكاً لحرمة أفريقيا، كما صرح مسؤولون أفريقيون جنوبيون بأن الوجود العسكري الأميركي في القارّة خط أحمر.
إذن لا يبدو أن الزحف الأميركي نحو دارفور وعموم أفريقيا سيواجه بباقات الزهور التي جرى الرهان عليها في العراق وأفغانستان، لكن الرئيس بوش بات محشوراً جداً، وهو بحاجة إلى خطوة للأمام بعد كل خطواته إلى الوراء، فلا بأس إذن أن يقدم على مغامرة جديدة، خصوصاً أن نفط نيجيريا وأنغولا والتقدم الصيني في القارّة أمور من شأنها أن تساعده على اجتراح حجج جديدة بعد تهافت أكثر حججه أمام الكونغرس وأكثر الحلفاء وغالبية الكونغرس والرأي العام الأميركي والدولي.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد / العدد 1235 ـ 5 تشرين الاول/ اكتوبر
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018