ارشيف من : 2005-2008

الاعتكاف: لذة القرب من الله

الاعتكاف: لذة القرب من الله
إن من أنجع الوسائل التي توصل وتؤدي إلى تكامل النفس وتطهيرها من كل دنس وتقربها من الله تعالى زلفى، وتؤدي إلى أرفع الدرجات الإنسانية وأسمى المراتب الأخروية  هو العمل بما أكده القرآن الكريم وبينه بقوله تعالى: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون".
فذاك الربط القرآني بين الايمان والعمل الصالح يجعل تكاملاً لدى النفس بحيث تصبح مستنيرة مضيئة بالأنوار الإلهية، وهذا معنى قوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور".
وأي عمل صالح أرفع وأنبل وأخلص وأطهر من انقطاع المؤمن إلى الله تعالى والاعتكاف عن كل ما عداه وخاصة في أيام الرحمن والبركات الإلهية.
فالاعتكاف سنة مؤكدة، وهدي نبوي فاضل، التزمه رسول الله (ص) حتى ارتحل إلى جوار ربه، وها هو (ص) كما ورد عن صادق آل محمد (ع) حيث قال: "كان رسول الله (ص) اذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضربت له قبة من شعر وشمر المئزر وطوى فراشه".
وهو اعتكاف للروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان في خلوة  مشروعة تتخلص النفس فيها من التعلق بالمتاع الفاني، واللذة العاجلة، وتبحر الروح في الملكوت الطاهر، طالبة القرب من الحبيب مالك الملك ملتمسة نفحاته وفيوضاته المباركة.
وهو الخلوة الصادقة مع الله تفكراً في آلائه ومننه وفضائله، واعترافاً بربوبيته وألوهيته وعظمته، وإقراراً بكل حقوقه، وثناء عليه بكل جميل ومحمود، وهو تبتل إلى الله تعالى، قيام وذكر وقراءة قرآن، وإحياء لساعات الليل بكل طيب وصالح من قول وعمل.
ولا شك أن هذا الاعتكاف ما شُرع إلا لحكمٍ عظيمة، لعل منها:
الحكمة الأولى: زيادة الصلة الإيمانية بالله تعالى، والجوانب العبادية التي تزكي النفس وتجعل المرء أكثر قدرة على مواجهة فتن الدنيا والعمل على استنقاذ الآخرين منها، وذلك عبر التفرغ للعبادة، فالمؤمن قد لا يجد وقتاً في كثير من الأحيان للأعمال والسنن المستحبة لكثرة انشغالاته بتحصيل حاجات الدنيا ومتاعها، ولكنه بالاعتكاف يعيد تأهيل نفسه وروحه وجسده عبر دورة تربوية يتفرغ من خلالها لعبادة ربه، مجابهة للنفس ومحاربة، وإلزاماً لها لتعود للتأمل في أسرار الكون والوجود، ولتتذكر ما ستقدم عليه من عالم الآخرة.
الحكمة الثانية: إن الاعتكاف فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله تعالى في كل الأعمال والحركات والسكنات.. وهذه النقطة وإن بدت ابتداءً أنها فردية بالدرجة الأولى إلا أن أهمية طرحها هنا تأتي من خلال معرفتنا بأن الإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة، ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم، وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دخل في إخلاص العاملين، ولما كان تحقيق الإخلاص من الصعوبة بمكان في أوساط الجماعة الواحدة كان الانقطاع عنهم وسيلة مساعدة للنفس لتعمل دون أن تشوبها شائبة الرياء، فهنا تنقطع عن كل من تحب وما تتصل به وتبقى لأيام في محضره تعالى.
ان الاعتكاف فيه ميزات وفوائد ما كانت لكثير من العبادات، ومن أهمها:
أولاً: لا بد من وقوع الاعتكاف ضمن بيت من بيوت الله الجامعة، وأحسنها وأفضلها المسجد الحرام ومسجد النبي(ص)، وهذا يدل على نوع من تربية النفس على الاستئناس بهذه الأمكنة الطاهرة من جهة، والتحسس للذة الجلوس في مكان قال فيه رسول الله (ص)  ـ في التوراة مكتوب ـ "أن بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، ألا إن على المزور كرامة الزائر، ألا بشر المشائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة".
ثانياً: ان هذه العبادة وكما تعلم لا تكون الا بالصوم، فصلاح النفس واستقامتها متوقفان على مدى إقبالها على الله تعالى، ولما كان فضول الطعام والشراب والمنكح والملذات ومخالطة الأنام وكثرة الكلام توجب ضعف الإقبال عليه تعالى كان اشتراط الصيام في الاعتكاف رادعاً عن هذه الحواجز حيث قال الرسول الأعظم (ص): "من منعه الصوم من طعام يشتهيه، كان حقاً على الله أن يطعمه من طعام الجنة ويسقيه من شرابها"، وكان دافعاً ومحضاً للنفس نحو بارئها ومبعداً عنها أخلاط الشهوات بحيث أنها تقبل على الله وحده ويصير أنسها بالله بدلاً عن أنسها بالخلق مصداقاً لما ورد عن سيدة النساء فاطمة الزهراء(ع): "فرض الله الصيام تثبيتاً للإخلاص".
ثالثاً: لقد شرع الاعتكاف في أي يوم من أيام السنة (يجوز فيه الصوم) ولكن الأفضل أن تتشرف بهذه العبادة في أفضل الأزمنة على الله عز وجل إلا وهو شهر رمضان وفي أفضل أيامه ولياليه ألا وهي العشر الأواخر كما كان يفعل (ص)، وهذه ميزة للاعتكاف حيث أنك تدرك من خلالها تفتح أبواب السماء وتهليل الملائكة وربما ادراك ليالي القدر مع ما لها من العظمة والجلال والتي يمكن لمن أحياها بالطاعة والتضرع والخشوع لله تعالى أن يسجل ويحتم له أنه من الذاكرين الخاشعين فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) ـ وقد سُئل (ع) عن قوله تعالى: "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" قال: "نعم، هي ليلة القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عز وجل: "فيها يفرق كل أمر حكيم".
ولأهمية الأيام والليالي المباركة كان (ص) إذا كان مقيماً اعتكف العشر الأواخر من رمضان، وإذا سافر اعتكف من العام المقبل عشرين، ويقصد بذلك إدراك وتعويض ما فاته من أجرها وثوابها.
رابعاً: أن من أروع ما يشعرك به الاعتكاف تلك اللحظات النورانية وأنت منقطع الى الله تعالى وحده حيث ينتابك شعور بأن الوحدة لله الواحد الأحد القهار، وتذكرك باللحظات التي ستوضع فيها في قبرك ويهيل عليك أبناء جلدتك التراب لتترك وحيداً في تلك الحفرة الضيقة المظلمة لا ناصر لك ولا معين سوى عمل صالح تستأنس به وعلى رأسه الاعتكاف المذكور.
وتستحضر في تلك اللحظات قول علي (ع): "والنفس مظانها في غد جدث "القبر" تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر".
والجدير بالذكر أن العبادة كلما كانت جامعة كانت أفضل وكل ما يساعد على حث وجمع وخدمة المعتكفين فهو عمل يتقرب به الى الله تعالى، فلا نفوّت هذه العبادة التي تعتبر منبعاً للخيرات ومحطاً لآمال وأنظار المحدقين الى رضا بارئ النسمة وفالق الحب والنوى خالق الخلق ذي الجلال والإكرام.
ولا تجعل من الاعتكاف سبباً لجعل المساجد مهاجع للنائمين ولا عناوين للمتزاورين، ولا موائد للأكل، ولا حلقات للضحك وفضول الكلام. بحيث يصبح اعتكافاً يخرج صاحبه منه وقد ازداد قلبه قسوة، وأتى بمعصية التعدي على حرمات مساجد الله.
فهنيئاً لمن استطاع أن ينقطع الى ربه ويأنس به فإنه ذلك الأنس الذي يرفع عنك وحشة القبر حين لا أنيس ولا مفرح الا الله تعالى.
الشيخ بلال عواضة
الانتقاد / العدد 1234 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2007
2007-09-28