ارشيف من : 2005-2008

ليلة القدر هبتها العتق من النار

ليلة القدر هبتها العتق من النار

ذُكِرت ليلة القدر في موضعين من القرآن الكريم: في السورة المسمّاة باسمها "سورة القدر"، وفي الآيات الأولى من سورة الدخان: "حم. والكتاب المبين. إنا أنزلناه في ليلة مباركة. إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم. أمراً من عندنا إنا كنا مرسلين. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم".
وقول الله "فيها يفرق كل أمر حكيم"، أي فيها تُقدر شؤون الخلائق من قبل رب الخلائق، فهي ليلة الأقدار المقدرة. قال الإمام الصادق (ع): "رأس السنة ليلة القدر، يُكتب فيها ما يكون من السنة إلى السنة".
وسأل سليمان المروزي الإمام الرضا (ع): ألا تخبرني عن "إنا أنزلناه في ليلة القدر"، في أي شيء نزلت؟ قال (ع): "يا سليمان، ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة، من حياة أو موت, أو خير أو شر أو رزق".
وواقع الحال أن تقدير مصير الخلق آجالاً وأرزاقاً في هذه الليلة لا يكون إلا وفق ما يقدمون لأنفسهم من أعمال خلال السنة المنصرمة. فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يرهً. فمصير الإنسان في السنة التالية من عمره تحدده حصيلة أعماله في تمام السنة الذي هو فيها، وهذا الذي يقدّر للسنة التالية ليس أمراً حتماً لا مناص من وقوعه. ذلك أن لله البداء، فلا شيء يحتّم على ربّنا سبحانه، وهو القائل: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أُمّ الكتاب".
وقال الإمام الصادق (ع): "إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة، فإذا أراد الله ان يقدم شيئا أو يؤخره أو ينقصه، أمَرَ الملك ان يمحو ما شاء، ثم أثبتَ الذي أراد".. فسأله أحدهم: وكل شيء هو عنده ومثبت في كتاب؟ قال (ع): "نعم".. فقال: فأي شيء يكون بعده؟ قال (ع): "سبحان الله، ثم يحدث الله أيضا ما يشاء تبارك وتعالى".
وكذلك فلا يمحو الله سبحانه او يثبت شيئا إلا بعمل الإنسان، فالإنسان هو الذي يقرر مصيره بنفسه.
لكن الله سبحانه فتح لعباده أبواباً من رحمته الواسعة، منها الاستغفار والتوبة والدعاء، وهو أعظمها: "قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم".. ثم جعل لهم فوق ذلك من عنده مواسم وأياماً محددة، شاء أن تكون مضامير للتقرب إليه باليسير من أعمال الطاعات، ودعاهم فيها الى التعرض له بالسؤال ليمنحهم الهبات الكبيرة والجوائز النفيسة إحساناً منه وتفضلاً.
من هذه الأيام ليلة مولد الإمام المنتظر "عج" في النصف من شعبان، وليلة الرغائب في الأول من رجب، والليالي البيض من كل شهر: (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)، ويوم الجمعة وليلته، وغيرها الكثير مما هو معروف لدى جميع المؤمنين.. ومنها شهر رمضان عامة، وليلة القدر خاصة.
رُوي عن النبي (ص): "ان الله اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر".
أما شهر رمضان وعظيم رحمة الله فيه للصائمين، فيكشف عنها قوله تعالى في حديث قدسي: "الصوم لي وأنا أجزي به". فإذا كان الله قد قدّر جزاء سائر أعمال المؤمن بعشرة أضعافها: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"، فإنه سبحانه يوفّي أجر الصائم بغير تقدير: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب". والصيام هو أحد مواطن أو مصاديق الصبر كما جاءت به الروايات تفسيراً لقوله تعالى: "واستعينوا بالصبر والصلاة".. اذ قيل إن الصبر هو الصيام. وقد أشار الرسول الأكرم (ص) إلى هذا الجزاء العظيم عندما قال: "هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة وقُلوب طاهرة أن يوفّقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإن الشّقي من حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم". هذا الجزاء هو غفران الله، حيث يعود المؤمن خالياً من الذنوب كما ولدته أمه. وهل بعد غفران الذنوب من جزاء عظيم؟
ومن نافل القول ان الصائمين الفائزين بهذا الجزاء العظيم ليسوا من أمسك عن تناول الطعام والشراب فقط، وإنما هم الممسكون عن الآثام المجتنبون لمحارم الله أيضاً. يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك". وإلا "ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره و جوارحه"! كما قالت الزهراء(ع).. ومثله قول أمير المؤمنين (ع): "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا السهر والعناء".
أما ليلة القدر فيكفي في جلال قدرها ووافر فضلها وصف الله سبحانه لها بأنها "ليلة مباركة"، وأن مزيد بركاتها سَمَتْ بها حتى صارت خيراً من ألف شهر.. بما يعني أن "العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر"، كما بيّن الإمام الباقر (ع).
وإذا كان الصيام في سائر أيام شهر رمضان جزاؤه غفران الله ذنوب الصائم، فإن هذا الجزاء نفسه وعلى عِظَمِه قد جعله الله لمن قام ليلة القدر.. فعن الإمام الصادق (ع): "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدّم من ذنبه". وكأن الله سبحانه وتعالى على مشارف نهاية الشهر المبارك، قد جعل هذه الليلة بمنّه وكرمه فرصة إضافية كي يستدرك من قصّر في أعمال الذكر ولم يجتهد في السؤال والدعاء في ما تقدمها من ليالٍ وأيام. ويا لها من فرصة تعادل عمل العمر بأكمله! أليست هي خيراً من ألف شهر؟
بل إن قدر ليلة القدر وفضلها عند الله أعظم من هذا بكثير، فهذا الإمام الرضا (ع) يصف ذلك فيقول: إذا كانت ليلة القدر غفر الله كمثل ما غفر في رجب وشعبان ورمضان.
لذا نجد "أن رسول الله (ص) نهى أن يغفل أو ينام أحد تلك الليلة"، كما ينقل الباقر (ع). وكيف لأحدنا أن يفعل ذلك ورسول الله (ص) نفسه "كان إذا دخل العشر الأواخر من شهر رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وشدّ المئزر".
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد 1234 ـ 28 أيلول/سبتمبر 2007

2007-09-28