ارشيف من : 2005-2008

الأصولية الدينية والرئاسة الأميركية 2008

الأصولية الدينية والرئاسة الأميركية 2008

الله»، كأنها ليست شأناً اجتماعياً سياسياً، وكأن ما تحقق من حريات وديموقراطية في جميع المجتمعات، المتقدمة والمتخلفة، ليس حصيلة نضالات الناس. ولا عجب في قوله فهو، كما قال الصحافي بوب وودورد، لا يهتم كثيراً بقراءة الجرائد. يعتمد أساساً على حدسه، وعلى ما يوحى إليه عبر صوت إلهي، حسب زعمه.‏

النخبة الثقافية اعتبرت أن الصراعات المقبلة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ستكون صراعات ثقافية ـ دينية. صاموئيل هانتنغتون يقسم العالم إلى حضارات (ثقافات) متصارعة، يتوقع أن تتصارع، يجب أن تتصارع، على أساس ديني. تبعه كثيرون في ذلك. المثقفون الأميركيون برّروا غزو العراق على أساس نظرية دينية كان أول من قال بها القديس أوغسطين. وكان بينهم فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ومايكل والزر الذي طوّر نظرية الحرب العادلة.‏

يعبّر المثقفون الأميركيون عن حالة شائعة، والنخبة السياسية تصغي إليها جيداً، خاصة في مجتمع ديموقراطي كالولايات المتحدة. يحتاج السياسيون إلى أصوات الناخبين وإلى استقطاب أوسع قطاعات من الناس. ويضطر المثقفون إلى تلبية حاجات السياسيين وآراء الجمهور الأوسع انتشاراً وهذا ما يسمى التيار الرئيسي الذي يتجلى في الصحافة والتلفزيونات وبقية وسائل الإعلام عامة. الأكثر تطرفاً وتنظيماً بين التيار الرئيسي مؤخراً هم المحافظون الجدد الذين بدأوا العمل منذ الأربعينيات عندما كانوا طلاب جامعات. كانوا يساريين معادين للاتحاد السوفياتي. تعاونوا مع وكالة الاستخبارات الأميركية في الخمسينيات وأصدروا مجلات ونظموا مؤتمرات ثقافية ثم انتقلوا للعمل الثقافي ضد كل المعادين لتورط أميركا في حرب فيتنام. تغلغلوا في ردهات الكونغرس كمساعدين للنواب والشيوخ وتغلغلوا في أوعية التفكير Think Tanks التي تضع الدراسات المؤسسة لصياغة قرارات الإدارة الأميركية في الأمور الخارجية والداخلية، والتي تصوغ الوعي العام. ركزوا جهودهم في البداية على السناتور هنري جاكسون، الديموقراطي الذي كان الأشد تأييداً لإسرائيل. بعد حرب فيتنام انتقلوا للنقد الثقافي. واجهوا الليبرالية عموماً لكنهم ركزوا جهودهم على التيارات الخارجة على المألوف. تلاقوا في هذه الرحلة الطويلة، منذ الثمانينيات، مع اليمين الديني والأصولية البروتستانتية والكاثوليكية. كان جيمي كارتر أصولياً بروتستانتياً لكنهم اعتبروا أنه أعطى العرب أكثر مما يستحقون في اتفاق كامب ديفيد. انقلبوا عليه واصطنعوا رونالد ريغان الذي صار رئيساً في العام .1980 وانتقل المحافظون الجدد تدريجياً إلى الحزب الجمهوري. لكنهم لم يحبذوا سياسة بوش الأب بسبب ما يسمى «الواقعية» السياسية عنده والتي اعتبروها سبباً لعدم احتلاله العراق بعد انتصار الولايات المتحدة وحلفائها في العام .1990 خرجوا من الإدارة في التسعينيات في أيام كلينتون باعتباره ليبرالياً. لكنهم تابعوا عملهم في أوعية التفكير ومع الساسة الجمهوريين. وجاءت فرصتهم مع بوش الابن خاصة بعد 11 أيلول .2001 وهم الذين صنعوا كذبتي علاقة نظام صدام حسين بالقاعدة، وامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، لإجبار النظام الأميركي على احتلال العراق كجزء من الحرب على الإرهاب المعلنة. خلال مسيرتهم كان همهم الأساس تعبئة الدعم الأميركي لإسرائيل وإلغاء مفاعيل اتفاق أوسلو. منهم بضعة أشخاص ساهموا في وضع برنامج عمل بنيامين نتنياهو الذي جاء على أساسه رئيساً لوزراء إسرائيل.‏

خلال هذه المسيرة وثقوا التعاون مع الأصولية المسيحية والتبشيريين البروتستانت الذين كان قد اشتد ساعدهم بالمعارضة لهجرة الآسيويين (التي أتيحت بأعداد كبيرة بعد قانون 1964 للهجرة) من البوذيين والهندوس الكونفوشوسيين والمسلمين الذين جاؤوا بمعتقداتهم وأنشأوا دور العبادة ونظموا أنفسهم كغيرهم؛ والذين تكاثرت أعدادهم بحيث صارت بعض طوائفهم تفوق عدداً بعض الطوائف البروتستانتية. يبلغ عدد الأصوليين المسيحيين في الولايات المتحدة نسبة كبيرة من الشعب الأميركي وتقدرهم بعض المصادر بأكثر من خمسين مليوناً. وفي التصويت يفعلون كل شيء كي تصب أصواتهم لمرشح واحد. إن كتلة واحدة من الأصوات تفوق 12 مليوناً تجبر أي رئيس أميركي على مراعاة مواقفهم. يخضع الأصوليون المسيحيون لتوجيهات قادة دينيين يصنفون أنفسهم صهاينة مسيحيين من أمثال جيري فالويل، الذي توفي، وبات روبرتسون وغيرهما. وهؤلاء أكثر تطرفاً من الليكود في التعامل مع قضية فلسطين، وهم يعملون لنسف كل إمكانية للتسوية. يعتبرون التوراة بمثابة سجل عقاري أعطى فلسطين لليهود، فكأن الذات الإلهية أمانة سجل عقاري. وعندما سُئل إيرفينغ كريستول، أحد أهم قادة المحافظين الجدد اليهود عن التحالف مع الأصوليين المسيحيين الذين كانت تصدر عن بعضهم تعبيرات لا سامية رغم تأييدهم المطلق لإسرائيل، قال: لهم الثيولوجيا ولنا إسرائيل.‏

إن خروج عدد من المحافظين الجدد من الإدارة الأميركية، بشكل مهين حيناً أو إلى قفص الاتهام حيناً آخر، لا يعني نهاية التيار السياسي الأميركي المعادي للعرب. يبقى هذا التيار راسخاً واسع الانتشار مع توسع الأصولية التبشيرية. الكلام هنا ليس عن الكنائس الرسمية البروتستانت الكاثوليكية، بل هو عن جماعات واسعة من التنظيمات خارج الكنائس الرسمية، تؤمن هذه الجماعات بمعركة الهرماجدون الأخيرة في فلسطين، ونهاية الكون، وتعمل من أجل ذلك. ما يحكى عن عبقرية كارل روف الذي استقال مؤخراً من إدارة بوش الابن ما كان ممكناً لولا التحالف الذي حاكه معهم. في أحد الكتب التي صدرت عن كارل روف يوصف بأنه «دماغ بوش». في كتاب آخر يسمى «المهندس» الذي قاد صاحبه للفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2000 عن طريق التركيز على ولاية فلوريدا التي رجحت الكفة، وفي عام 2004 بالتركيز على ولاية أوهايو التي رجحت الكفة أيضاً.‏

ما كان باستطاعة كارل روف أن ينجح دون التحالف مع والف ريد الذي كان، من قبل، قد شارك مع بات روبرتسون في تشكيل جماعة «الأكثرية المسيحية» التي صارت واحدة من قوى اليمين الديني وذلك مع جماعة «الأكثرية الأخلاقية» التي كانت قد تشكلت على يد جيري فالويل الذي أهداه مناحيم بيغن طائرة خاصة مكافأة له على خدماته لإسرائيل. كان رالف ريد متأكداً أن الولايات المتحدة ستعود إبان حياته إلى حكومة مسيحية تسير على هدى القيم المسيحية.‏

عندما يضطر مرشحو الحزب الديموقراطي في حوار انتخابي جماعي، منذ أسابيع، للإجابة على أسئلة حول معتقداتهم الدينية، فإنهم يخضعون لضغوط انتخابية. الكل يريد أكبر عدد ممكن من الأصوات في نظام ديموقراطي يتحكّم به المزاج الشعبي. وعندما نتذكر قول جورج ماكغفرن قبل بضع سنوات، وهو مرشح للرئاسة الأميركية عن الحزب الديموقراطي في دورة سابقة. انه لم يعد أحد يجرؤ على القول علانية بأنه ليبرالي، فإن ذلك يعبّر عن تراجع المزاج الشعبي الأميركي في اتجاه الأصولية الدينية.‏

تنتشر الأصولية الدينية عندهم كما عندنا، وكما في بقية أنحاء العالم، فهي السمة البارزة لهذا القرن الجديد. تقود الأصولية الى مصادرة الحقيقة والى تكفير الآخرين. ويؤدي التكفير الى العنف. والحرب الأميركية على الإرهاب أشد عنفاً من الأعمال التي تصفها الإدارة الأميركية بالإرهاب. تخلت هذه الإدارة الأميركية عن السياسة وعن مبادئ المساواة بين البشر وفي كل مجتمع. وما لا يبعث على التفاؤل هو أن هذه الإدارة تعبّر عن مزاج شعبي وأن هذا المزاج هو الذي جعل الحزب الديموقراطي يتردد ويقف موقفاً جباناً حيال الحروب العدوانية التي تشنها الإدارة الأميركية في العراق وفلسطين وأفغانستان. ونتساءل ماذا يمكن أن نتوقع في لبنان من جراء هذه السياسات؟ هل ننتظر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في أواخر العام 2008؟ أم أننا نعرف النتيجة سلفاً حتى لو فاز الحزب الديموقراطي كما هو متوقع؟‏

المصدر : صحيفة السفير اللبنانية‏

2007-08-24