ارشيف من : 2005-2008
صدع العيش المشترك
كتب سليمان تقي الدين
عندما يسمع المرء كلاماً يتعلق بإعادة النظر بالتوازنات الطائفية داخل السلطة أو إعادة تقاسم السلطة على أسس جديدة، أياً كان مصدره، عليه أن يستنتج أمرين: الأول عدم فهم طبيعة الأزمة الداخلية اللبنانية وقواها ومكوناتها، والثاني تجاهل غير مبرر للأخطار الجدية التي تحيط بلبنان نتيجة المعطيات الإقليمية في منحاها العميق.
في المشهد اللبناني الآن تستحيل هيمنة طائفة بعينها أو تحالف طائفي معين، لأن النظام أنتج ثلاث مجموعات كبرى قادرة على تبديل تحالفاتها في كل وقت وعزل
إحداها، وتبديل لعبة التحالف والعزل. هذا ما حصل في السنتين الماضيتين. أدى ذلك الى أزمة النظام الحالية وعدم الاستقرار وبات يهدد عملياً امكانات تجديد السلطة وتفعيل مؤسسات النظام.
على السطح السياسي يتراشق الفرقاء اللبنانيون بتهم ازدواجية الارتباط والولاء. جميعهم يستخدم حججاً تشير الى
إضعاف لبنان ومقومات الدولة فيه. يتفقون ضمناً على ان الخسائر الجارية لبنانية صافية، سواء أكانت مادية أم بشرية. ثمة نقاط التقاء أساسية في بنية الخطاب السياسي. الهدف من وراء الصراع تحديد مستقبل لبنان: موقعه ودوره وهويته السياسية والاقتصادية كمحصلة وليس كخطة واعية. ما لا تلحظه القوى السياسية الآن ان متغيّرات النظام الإقليمي سائرة إلى تجاوزها جميعاً. تتغيّر القوى بواسطة الصراع، ما تنتهي اليه قد يختلف كثيراً عما تعلنه وترتجيه.
مشروع الولايات المتحدة الأميركية، بغض النظر عن توصيفنا السابق له واختلاف النظرة اليه، تغيّر نتيجة تعقيدات إقليمية من جهة وظهور قوى كامنة غير متوقعة. صارت الفوضى هي السمة الاساس للمشروع الأميركي. كلما أعطي الأميركيون فرصة أكبر للتدخل في الصراعات زادت الأخطار على جميع كيانات المنطقة.
أتاح الاحتلال الأميركي للعراق للأصولية الإسلامية ما لم يكن متاحاً لها من قبل إلا في
أفغانستان لتجسيد فكرة «الإمارة». كلما تراجعت شرعية الانظمة العربية في مواجهة التحدي الأميركي الإسرائيلي كلما قويت شوكة الأصولية الإسلامية. النظام الرسمي العربي يضع نفسه الآن بين مطرقة السيطرة الأميركية وسندان الحركات الأصولية. الحركات الأصولية المتشددة لا تعرف حدوداً ولا كيانات ولا طبعاً تحترم قواعد الاجتماع السياسي في أي مكان.
أعلنت الجماعات اللبنانية بمذاهبها المختلفة عن أصوليات لديها لكل منها خصوصيتها. لكن ما بات مؤكداً ان لبنان صار جزءاً من مناخات التطرّف والأصولية وصار مكشوفاً أمام جميع اشكال المداخلات السياسية والأمنية. كلما تأخرت التسوية السياسية التي تعيد هيكلة الدولة ومركزة نظامها الأمني وكبح الخطاب السياسي المتوتر، كلما استحال الدفاع عن المشروع اللبناني بما هو تجربة ديموقراطية متسامحة تتآلف فيها الأديان والمذاهب والثقافات. يتعاظم اليوم تأثير الثقافات الحصرية وترتفع حدود صلبة عازلة بين المجموعات. تتراجع ثقافة الحوار الاستيعابية للآخر لمصلحة نبذه من دائرة التعايش.
الإلغائية الثقافية والسياسية مقدمة للتدمير المادي أو الاقصاء الحياتي. الحروب العسكرية تحكمها التوازنات، الحروب الأهلية تحكمها غريزة «الموت لعدوكم». الأصوليات السياسية النامية في لبنان هي المظلّة الكبرى لأشكال متعددة من الأصوليات «الدينية». قامت فكرة لبنان أصلاً على التعايش المشترك وعلى قبول الآخر المختلف، وعلى فرضية ان الآخر له حق التعبير عن ذاته دون الحاجة الى الاستنفار المسلح. المشكلات التي تواجهها «الصيغة اللبنانية» الآن تجاوزت بكثير توازنات السلطة السياسية. صارت الشراكة السياسية هدنة بين حربين. العيش المشترك يتعرض الآن لضغط الأصوليات المتعددة في المجتمع. المحيط الاقليمي يرفع منسوب الحرارة في النزاعات الداخلية. من يرفع شعار «مشروع الدولة» عليه أن يبرأ من تدارك الصدع الكبير في العيش المشترك.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018