ارشيف من : 2005-2008

القرار 1559 شكّل مظلة دولية وإيذاناً ببدء الحملة على المقاومة وسوريا: جنبلاط بات رأس الحربة الأميركية وانقلاباته جديرة بتصدّر كتاب "غينيس"

القرار 1559 شكّل مظلة دولية وإيذاناً ببدء الحملة على المقاومة وسوريا: جنبلاط بات رأس الحربة الأميركية وانقلاباته جديرة بتصدّر كتاب "غينيس"

من إلهام، فكان ربما أتاني إلهام معيّن أنه لا بد من أن يتغيّر شيء، لا نستطيع أن نستمر في هذه الوتيرة التافهة الروتينية تحت شعار الوضع الوطني والقومي".‏

هذه الكلمات نطقها النائب وليد جنبلاط في مقابلة تلفزيونية على قناة عربية عام 2005، أعلن فيها "ردّته" إلى نفسه ووعيه بعد ما يقرب من ثلاثين سنة من "الضياع" عاشها في كنف النظام السوري، وتوّج فيها انحناءته الحادة من اليسار إلى اليمين من دون محطة وسطى سوى في بعض الفترات، حيث كانت مواقفه تتأرجح بوتيرة متسارعة وبلا نمط، بما يبدو أنها كانت مقصودة لتبرير "الردّة" التي ينبغي تدوينها في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية تحت بند "أسرع متلوّن".‏

القرار 1559 والردّة‏

تعكس المواقف الحالية التي يتحف بها جنبلاط الساحة الداخلية، ارتباطاً واضحاً ومكشوفاً بسلة أوامر وتوجيهات ينقلها المفوض الأميركي السامي في بيروت جيفري فيلتمان، إلا أنه لا بد من أن نسجّل له أساليبه "الحصرية" التي طبع بها نفسه وأداءه السياسي، فضلاً عن مهارته في اقتناص الفرص الزمنية لإطلاق المواقف، ولو أنه لم يوفق بذلك في بعض المرات، لأنه ما زال معتاداً على التعاطي مع أطراف احترفوا التبعية مثله، فظنهم سـ"يبلعون" الموقف، إلا أنه فوجئ بنمط جديد من الأشخاص والأحزاب يخالفونه بعدم تخليهم عن الثوابت، وكرّس بذلك سبيل الافتراق عنهم.‏

ويمكن تأريخ "الردّة" الجنبلاطية على مستوى التطبيق الميداني اعتباراً من أيلول العام 2004، بعد أن بدأت واشنطن وباريس تلوّحان باستجلاب قرار من مجلس الأمن الدولي رداً على مشروع لبناني ـ داخلي كان يُبحث به لتمديد ولاية رئيس الجمهورية إميل لحود، وهو ما حصل فعلاً عام 2005.. واتُخذ القرار 1559 لينضم جنبلاط الذي لم ينتخب الرئيس لحود أصلاً، إلى الحملة الدولية ضد المقاومة والقوى الوطنية في لبنان وسوريا وإيران، بأدوات محلية.‏

المقاومة وسلاح الغدر‏

يكفي أن نستذكر بعضاً من مواقف جنبلاط المشهورة والعلنية السابقة والمستجدة، لنعرف حجم الارتداد والانحناء.. فهذا الحزبي القومي العريق قد تخلى عما اعتبره "كذبة كبيرة اسمها التضامن العربي"، وهو الذي كان يعتبر أن "المستقبل هو في تلك البندقية الوطنية والإسلامية من جنوب لبنان إلى النجف مروراً بالفلوجة، فإذا سقطت البندقية ستكون كرامتنا مسلوبة ورأسنا ذليلاً".. ولكن معاني الذل والكرامة اليوم سرعان ما انقلبت بعد أن أعلن الأميركي إشارة "إلى الوراء سر"، وهناك الكثير الكثير من مواقف جنبلاط "الغادرة" عن حزب الله، وهو لا يستطيع أن يسقط من ذاكرته ما نقلته صحيفة "الشرق الاوسط" حول رؤيته ونظرته لحزب الله، حيث قال: "إن حزب الله حزب كبير، وهو من أبناء الجنوب والوطن، ولم يأتِ من الخارج، وإذا قررت "إسرائيل" الدخول مجدداً الى لبنان فكل بيت يوجد فيه سلاح للمقاومة". والآن أين أصبح حزب الله والمقاومة عند جنبلاط؟ لقد قال: "نحن أقوى من السلاح الذي يمتلكونه، سلاح الغدر.. (ويقصد هنا سلاح المقاومة).. أطل علينا بالأمس رئيس جمهورية حزب الله حسن نصر الله مهدداً متوعداً مهاجماً الدولة ومشروعها وكامل أسسها، معتبراً أن الدولة الحالية ليست دولة قوية، متناسياً أن وجود سلاحه ومؤسساته وترسانته وأمنه ومربعاته هو أحد أبرز أسباب عدم قيام الدولة القوية".‏

سوريا من الحليف إلى العدو‏

طالما تغنى جنبلاط بعلاقته بسوريا العروبة وقائدها الرئيس حافظ الأسد، وألقى محاضرات عن التاريخ والجغرافيا، وأنه يفدي سوريا بدمه ويقدم نفسه وماله وعياله في سبيل حمايتها.. فهو كان يقول عن سوريا: "كنت الحليف الأول لسوريا، وسأبقى عند الضرورة إذا ما شعرت بأن هناك خطراً على سوريا، سأكون مدافعاً عن سوريا". وفي عام 2003 وعقب زيارة قام بها لآية الله السيد محمد حسين فضل الله، ثم للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، قال جنبلاط: "سوف يزداد الضغط (الأميركي) على سوريا ولبنان اذا ما تحقق غزو العراق، وسندافع بكل الوسائل إذا كان الأميركي يريد أن يتحدانا في عقر دارنا هو والإسرائيلي، وقد سبق وقام بذلك وطُرِد عن سواحل بيروت". وخلال زيارة له عام 2004 إلى باريس التقى فيها الرئيس الفرنسي جاك شيراك، قال إن هدف الزيارة "كان مطالبة فرنسا بدعم النظام السوري في مواجهة التهديدات التي يواجهها". وهذا البلد العربي الجار الشقيق يصبح ذا تصنيف آخر لدى جنبلاط، وكان الأمر واضحاً وجلياً في التصريح الذي أدلى به لتلفزيون "المستقبل" عام 2006 بالقول: "عدوي الآن ليس إسرائيل، بل النظام السوري الحاقد والغبي". و"نظام بشار هو نظام إرهابي.. ولا يختلف عن نظام أبيه الذي يغتال الشخصيات الوطنية"، في إشارة إلى والده كمال جنبلاط. وها هو جنبلاط يعمل على منع "التدخلات" السورية في الشأن اللبناني من خلال انضمامه وتعاونه مع المعارضة السورية في المطالبة بإسقاط نظام "بشار الأسد"، ولو بالقوة الأميركية.‏

إيران امبراطورية الفرس والمجوس‏

شكّلت الجمهورية الاسلامية الايرانية إلى جانب سوريا، بل كانت لدى النائب وليد جنبلاط، محور الممانعة ضد قوى الهيمنة والشر العالمي، وعلى رأسها الولايات المتحدة و"إسرائيل". وهو كان دوماً يبدي قلقه على مستقبل سوريا وإيران وحزب الله أمام القطار الأميركي، فقد كان يعتبر أنه "إذا نجح الأميركيون في العراق فالهدف الثاني هو إيران وسوريا وحزب الله وكل تيار سياسي يقول لا لأميركا ولا لـ"اسرائيل". لذلك فالدفاع اليوم في العراق وصمود العراق ومساعدة العراق عسكرياً ومالياً ومتطوعين، هو دفاع عن إيران ودفاع عن سوريا وعن حزب الله، ودفاع عن كرامتنا ووجودنا".. ولكن هذا الرجل المهجوس الخائف دوماً من أفوله، المستجدي دوماً كينونته من فتات الآخرين، بات يرى إيران من المنظار الأميركي الذي يصنّفها ضمن "محور الشر"، وباتت المعزوفة المفضلة واليومية عنده "حزب الله حزب إيراني عميل، مزروع في لبنان لتنفيذ مخططات صفوية مجوسية".. وباتت إيران "الامبراطورية الفارسية التي تعاود حلمها بالهيمنة على المنطقة العربية والإسلامية بصواريخها النووية".‏

بوش من مجرم إلى ملهم‏

كانت الإدارة الأميركية عند جنبلاط منطلقاً آخر للإرهاب والإجرام كما "إسرائيل"، حيث كان يقول: "إننا لا نقبل أن تملي علينا الإدارة الأميركية كيف نمارس الديمقراطية في لبنان والمنطقة، أو تعطينا دروساً في الديمقراطية.. بوش فخور بأنه صديق للمجرم آرييل شارون، ومن ثم فإن بوش مجرم هو الآخر".. وكذلك كان وصفه للمندوب الأميركي في مجلس الأمن جون بولتون.‏

ولكن لم ينس الناس بعد ولن ينسوا التحوّل الجذري الذي طرأ عندما رحّب جنبلاط بالرياح الديمقراطية الآتية من العراق، متمنياً لو يصبح "زبالاً في نيويورك" على أن يكون وطنياً في بلده. وبالفعل هذا ما بادر إلى القيام به، حيث طالب خلال زيارته إلى واشنطن في شباط عام 2007 بشن هجوم عسكري على سوريا وإسقاط نظام دمشق على غرار الغزو الأميركي للعراق، وطلب مساعدة سياسية وعسكرية ضد دمشق. وقال في محاضرة ألقاها في معهد "أميركان انتربرايز" في واشنطن: "هذا ليس سراً.. نعم أبحث عن المساعدة.. أحتاج إلى مزيد من المساعدة السياسية والعسكرية ضد الاحتلال السوري غير المباشر.. سوريا ما زال لديها تأثير في لبنان وتعمل عن طريق حزب الله اللبناني الشيعي وحلفاء آخرين.. سأفعل ما بوسعي لتحرير بلدي من الاحتلال السوري غير المباشر".‏

وقد تلقّى جنبلاط مساعدة مباشرة بلغت سبعة ملايين دولار من جورج بوش، وتأكيدات لاستمرار السياسة الأميركية نفسها في لبنان التي كان جنبلاط يهاجمها ويشتم أقطابها، فإذا هو يستجيب للاستدعاء إلى بلاد العم سام ويعتذر صاغراً ممن اعتبرها يوماً من الأيام نذير شؤم، فأصبحت اليوم السيدة الآمرة ولا غبار على رؤيتها ولا نقاش في حكمها. وليس هناك أوضح من الكلام الذي قاله جنبلاط للصحافي ديفيد أغناسيوس من جريدة الـ"واشنطن بوست": "إذا كان بوش يعتبر لبنان أحد إنجازاته الكبرى، فالآن حان الوقت لحمايته". وحين سأله الصحافي عما يريده من الولايات المتحدة الأميركية أجاب: "لقد أتيتم إلى العراق باسم حكم الأكثرية، لذا فإن بإمكانكم فعل الشيء ذاته في سوريا".‏

هذا غيض من فيض الانقلابات الجنبلاطية.. فهل بعد من سؤال عن الرجل؟‏

محمد الحسيني‏

الانتقاد/ العدد 1236 ـ 12 تشرين الاول/ اكتوبر 2007‏

2007-10-12