ارشيف من : 2005-2008
يوم القدس في إطاره المحلي والإقليمي والدولي و... الكوني!
بعد عام، وتأخذ أبعاداً أكثر عمقاً. وقد تم، هذا العام، إحياء يوم القدس، من خلال مسيرات وتظاهرات خرجت في طول العالم الإسلامي وعرضه، وتجاوزته إلى العديد من العواصم والمدن الأوروبية والأميركية. أبرزها كان في إيران وسوريا ولبنان وفلسطين وتركيا وصولاً إلى جامعة الأزهر ونيجيريا والبحرين وأفغانستان والهند وآسيا الوسطى. كما ألقيت بالمناسبة المئات من خطب الجمعة ونشرت مئات المقالات الصحفية والبرامج المتلفزة وصفحات الإنترنت التي عبرت عن تصاعد حالة الوعي بقضية القدس في أوساط الجماهير والفعاليات الدينية والسياسية والثقافية.
وفي بادرة غير مألوفة، حاولت الأمم المتحدة تلافي الحرج الذي يشكله تبني الثورة الإسلامية في إيران لقضية القدس ومجمل القضية الفلسطينية، وما يتركه ذلك من تأثيرات كبرى في أوساط الشعوب العربية والإسلامية المغلوبة على أمرها، بأن أعلنت اليوم ذاته يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني، علماً ان الامم المتحدة بهيئاتها الممتدة من مجلس الأمن إلى الأونروا كانت وما تزال في طليعة الجهات التي سهلت اغتصاب فلسطين وأصدرت قرارات قضت بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، لكنها حرصت في الوقت ذاته على إبقاء هذه القرارات حبراً على ورق. وفي خطوة مماثلة، أدلت الجامعة العربية بدلوها، فطالبت المجتمع الدولي بإجبار "إسرائيل" على الانسحاب وبوضع حد لمأساة الشعب الفلسطيني. كلام مثير للأسى بقدر ما يأتي لتكريس الإسهام العربي الفعال في محاصرة الشعب الفلسطيني وتضييق الخناق عليه وتعميق مأساته تلبية للرغبات الأميركية والإسرائيلية.
وسواء تعلق الأمر بالأمم المتحدة أو بالجامعة العربية، فإن الخطوتين المذكورتين لم تفعلا غير تسليط الضوء على الهوة الساحقة التي تفصل بين الموقف الجاد الذي أطلقته الثورة الإسلامية في إيران والمواقف الفارغة التي تعودت عليها القضية الفلسطينية منذ ما قبل العام 48.
جدية الموقف الإيراني من القضية الفلسطينية ظهرت منذ الخطوات لأولى للثورة مع قطع العلاقات التي كان قد أقامها الشاه مع "إسرائيل" واستبدالها بعلاقات مميزة مع منظمة التحرير الفلسطينية، قبل الإعلان عن يوم القدس.
وليس من قبيل الصدفة أن تأتي هذه المواقف متزامنة مع اثنين من الأحداث المشبعة بالدلالات والتي كان لها أبلغ الأثر على تاريخ المنطقة: زيارة أنور السادات إلى "إسرائيل" وخطابه في الكنيست، من جهة، ونقل الحرب، من قبل صدام حسين، إلى البوابة الشرقية بدعم لا هوادة فيه من الغرب وغالبية الأنظمة العربية التي كانت قد بدأت مسيرة الهرولة نحو التطبيع، من جهة ثانية.
وقد كان الموقف الإيراني من فلسطين والقدس في طليعة الأسباب التي دفعت الأنظمة العربية إلى وضع كل ثقلها إلى جانب نظام صدام حسين، لأن المعادلة التي كان قد رسا عليها الصراع العربي الإسرائيلي حتى ذلك الحين كانت مريحة للطرفين، الإسرائيلي الذي كان يخطو الخطوة تلو الأخرى باتجاه تحفيف مشروعه التوسعي والاستيطاني، والعربي الرسمي الذي لم يكن له من هم غير محافظة الحكام على الحكم والتنعم بثمار الحكم على حساب الشعوب والشعب الفلسطيني بوجه خاص.
لكن الثورة الإسلامية أسقطت هذه المعادلة عندما جعلت من تحرير المسجد الأقصى وبيت المقدس وسائر فلسطين هدفها المركزي في وقت كانت فيه قضية التحرير قد وضعت في دائرة النسيان العربي، مع تركيز الاهتمام على مستقبل كانت "إسرائيل" قد بدأت برسم ملامحه عندما طرحت فكرة استبدال الجامعة العربية بجامعة شرق أوسطية تحتل فيها موقع القطب من الرحى.
لكن منطق التاريخ الحق كان قد بدأ بفرض نفسه مع عجز العدوان عن النيل من صمود إيران، ومع تمسك سوريا بموقفها المبدئي من قضية السلام القائم على استرجاع الحق، ومع صمود الشعب الفلسطيني أمام محاولات التفتيت والسحق. وبالطبع، مع الصفحة الرائدة التي سجلتها المقاومة في لبنان عندما حررت معظم الأراضي الجنوبية عام 2000، والصفحة الأخرى التي وضعت "إسرائيل"، في العام 2006، أمام مصيرها المحتوم والمحكوم بالتتبير والانهيار.
لكن يوم القدس لا يندرج ضمن إطار السعي لاسترجاع حق مغتصب وحسب. فهو يشكل، في الأساس، لُباب قضية تحرير الإنسان من ربقة أشكال العبودية المعاصرة بكل قسوتها وجبروتها ووحشيتها. إنه يوم المواجهة بين المستضعفين والمستكبرين على النطاق العالمي. وهي مواجهة لا كالمواجهات التي يحفل بها عالم اليوم والتي لا يستند أكثرها إلى موثق وركن مكين.
إنها تلك المواجهة التي فتحت أفق الحسم النهائي للمعركة الكونية التي بدأت مع الخزي الذي أحاق بإبليس ونمرود وفرعون وقارون ومشركي مكة، على أيدي قافلة الأنبياء المتعاقبين، والتي ستستكمل مع امتلاء الأرض بالقسط والعدل الموعودين مع بقية الله في الأرض.
وعندما تطرح القضية على هذا المستوى، فإن دعاوى كتلك التي تنهل من قواميس الإفك المعاصر لتقول بأن إيران تتدخل في الشأن الفلسطيني (على أساس أن وجود "إسرائيل" في فلسطين ليس تدخلاً في الشأن الفلسطيني)، أو بأن حزب الله يبني دولة داخل الدولة (علماً بأن الجميع بنوا دولهم داخل الدولة وفوق الدولة منذ اللحظة التي أنشئت فيها الدولة، قبل ولادة حزب الله بعشرات السنين)... تأخذ شكل الفضيحة، وتضع أصحاب هذه الدعاوى في مواقعهم الطبيعية إلى الخسران المبين.
أليس لجاجاً كلامياً مخجلاً يتعمد التغاضي عن أدنى مرجعية إلى الواقع، إمعاناً منه في احتقار الواقع، ما تطلع به يومياً جوقات التشويش على الصوت الوحيد الذي انطلق في فضاء الأمة ليرفع عن وجه الأمة كل ما لحق به طيلة قرون من صنوف البطش والعسف والمهانة؟ وليعيد تصويب مسار التاريخ في المنظومة الكونية بعد كل هذا التيه الطويل في متاهات الضلال والضلالة؟
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد 1236 ـ 12 تشرين الاول/ اكتوبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018