ارشيف من : 2005-2008

ربيع شهر رمضان وبقية الشهور أيضاً..القرآن الكريم: قراءةً وتدبراً

ربيع شهر رمضان وبقية الشهور أيضاً..القرآن الكريم: قراءةً وتدبراً

بالثواب الجزيل كما ورد في خطبة الرسول (ص) في استقبال شهر الله "ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل من ختم القرآن في غيره من الشهور".‏

ولا شك أن مثل هذا الخطاب النبوي نجد مفعوله في هذا الانكباب لا بل التسابق للعيش مع القرآن الكريم من أوله إلى آخره ومحاولة ختمه وربما لمرات طمعاً في هذا الأجر الجزيل، ولكي نصل بالهدف النبوي إلى مداه وبالثواب الجزيل الى أقصاه، لا ينبغي إغفال التوجيهات الأخرى الواردة عن النبي(ص) وأهل بيته(ع) والتي تلقي الضوء على سبل الاستفادة وكيفية التعاطي مع كتاب الله ليكون القارئ للقرآن مصداقاً لقوله (ص): "لا يعذب الله قلباً وعى القرآن"، ولقوله(ص): "حملة القرآن عرفاء أهل الجنة". وفي ما يلي سنتناول بالحديث أمرين مهمين يرتبطان بأسلوب التعاطي مع القرآن الكريم:‏

أولاً: كيفية ختم القرآن‏

روي بسند معتبر عن رجل قال لأبي عبد الله (ع): "أقرأ القرآن في ليلة، قال لا يعجبني أن نقرأه في أقل من شهر".‏

وروي بسند معتبر آخر أن أبا عبد الله (ع) سئل: في كم يختم القرآن؟ فقال: اقرأه أخماساً، اقرأه أسباعاً، أما إن عندي مصحفاً مجزءاً أربعة عشر جزءاً". وهناك روايات أخرى تحدد ختم القرآن بأقل من ذلك وخصوصاً في شهر رمضان، هذا التفاوت في تحديد المدة لختم القرآن يفهم منه أن على القارئ للقرآن أن يراعي شأنه وقابليته وقدرته على الاستفادة من القرآن الكريم، وأن عليه أن يوازن بين الكمية ومقدار الآيات والسور وبين الكيفية ومقدار وعي ذلك، ولذلك ورد في بعض الروايات أن أصحاب رسول الله (ص) كانوا يأخذون عدداً من الآيات ولا يتجاوزونها حتى يفهموها ويتدبروها ويتعلموا ما فيها من العلم والعمل. وأيضاً روي عن الرضا (ع) أنه كان يختم القرآن في كل ثلاث، ويقول لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاث لختمت ولكني ما مررت بآية قط إلا فكرت فيها وفي أي شيء أنزلت وفي أي وقت.‏

فالمطلوب قراءة القرآن بتدبر كما قال تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن" (النساء:82).‏

و"كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب" (ص:29).‏

والتفكر والتوجه الى المعاني والاتعاظ بمواعظ الله، والاعتبار بأحوال الماضين وسنة الله في العالمين، وطلب الرحمة إذا وصل القارئ الى آية فيها عذاب كما ورد في روايات عديدة، منها ما عن الرضا (ع) أنه كان يكثر بالليل في فراشه من تلاوة القرآن فإذا مرّ بآية ذكر جنة أو نار بكى وسأل الله الجنة وتعوّذ من النار. وكذلك القرآن الكريم يرشدنا الى ما يعين على تدبر القرآن فقال: "ورتّل القرآن ترتيلاً" (المزمل:4).‏

وقد سئل علي (ع) عن الترتيل فقال: بينه تبياناً ولا تَهُذَّهُ هذَّ الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن أفرعوا قلوبكم القاسية ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.‏

فالمؤمل عند مجالسة القرآن أن يرتقي القارئ من مرحلة تعلم لفظ القرآن بشكل صحيح الى مرحلة معرفة معاني القرآن وتدبر آياته ومن ثم الى مرحلة العمل بأحكام القرآن والتخلّق بأخلاقه والانتهاء عن مناهيه. وبذلك نكون مصداقاً بارزاً لحملة القرآن الذين قال فيهم رسول الله(ص): حملة القرآن عرفاء أهل الجنة"، "أشرف أمتي حملة القرآن".‏

ولا نغفل قبل الدخول في المبحث الثاني عن التذكير بآداب قراءة القرآن من الاستعاذة بالله، "فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" (النحل: 98).‏

واستقبال القبلة: "أشرف المجالس ما استقبل به القبلة"، وقراءته بحزن "ان القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن".‏

ثانياً معرفة القرآن‏

نزل القرآن الكريم بلغة العرب "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" (يوسف:2).‏

و"بلسانٍ عربي مبين" (الشعراء: 195).‏

فهو واضح الدلالة على معانيه ويفهمه من كان عارفاً باللغة العربية وملماً بأساليب التعبير من المجاز والكناية وغير ذلك، وقد تحدث القرآن عن ضرورة التدبر في آياته "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" (محمد :24) لكي لا يقع القارئ أسير ما يتراءى له من الاختلاف بين بعض الآيات، ولكي لا يفهم خلاف المراد من آيات أخرى، ومعنى أن يتناول الدارس للقرآن والمجالس له كتاب الله ككتاب متكامل ويفهم آياته بالاستعانة بآياته لا أن يحاول فهم كل آية في جوّها الخاص لأن القرآن يفسّر بعضه بعضاً كما ورد عن الإمام علي (ع): "يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض"، وورد عن رسول الله(ص) "وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً".‏

وكذلك بالرجوع بالآيات المتشابهات الى الآيات المحكمات يتوضح معنى المتشابهات التي لو أخذت منفردة لأفادت معاني مخالفة لما بعد الإرجاع مثل قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة" (القيامة: 22/23) يتوضح معناها بإرجاعها الى قوله تعالى: "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" (الأنعام: 103).‏

فالمقصود بالنظر هنا هو التوجه القلبي الى الله تعالى.‏

كما أن الرجوع الى أسباب نزول بعض الآيات يعين على فهمها وإن كانت لا تقيدها في زمانها.‏

وينبغي الالتفات الى أمور:‏

أولاً: وجود كلمات في القرآن الكريم متحدة اللفظ مختلفة المعنى، والمعين للمعنى المقصود هو السياق القرآني والقرائن، فمثلاً تعبير المتشابه ورد بمعنيين ففي آية ورد "الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني" (الزمر:23).‏

والمقصود بالتشابه هنا أنه متناسق لا تناقض فيه ويشبه بعضه بعضاً فلا تعارض ولا تضاد: فالآية عبّرت عن القرآن بأنه كتاب متشابه بينما ورد لفظ المتشابه بمعنى آخر في سورة آل عمران في قوله تعالى: "هو الذي أنزل عليك الكتب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخر متشابهات" (آل عمران:7).‏

وعبّر عن قسم من الكتاب بأنه من المتشابهات وليس كله متشابهاً، فالمقصود بالتشابه هنا معنى آخر غير المعنى الذي مرّ، أي الآيات التي تبدو معانيها لأول مرة معقدة وتتوضح بالرجوع الى المحكمات.‏

ثانياً على الدارس أو القارئ لكتاب الله أن يكون حاضراً في ذهنه مجموعة من القضايا القطعية العقلية أو الدينية، ويفهم القرآن على ضوئها أو ليس بعيداً عنها كقضية عصمة الأنبياء(ع) أو تنزه الله تعالى عن الجسمية والأمور المادية وغير ذلك. فعندما يقرأ مثلاً قوله تعالى: "وجاء ربك والملك صفاً صفاً" (الفجر:22) أو "يد الله فوق أيديهم " (الفتح:10) وغيرها من الآيات بما هو ظاهر منها من المجيء المعروف عبر الانتقال من مكان الى آخر أو اليد بمعنى الجارحة؟ فالصحيح هو ما ذكرنا من الالتفات الى هذه الحقائق وفهم هذه الآيات وغيرها على ضوئها.‏

ثالثاً: على الرغم مما ذكرنا من أن القرآن واضح في نفسه ولكن الدارس لكتاب الله عليه أن لا يغفل الأحاديث الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته (ع) وذلك بمقتضى كتاب الله وقوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" (الحشر:7).‏

فنحن مأمورون بالرجوع الى النبي (ص) وأهل بيته (ع)، وهناك آية أخرى حددت علاقة النبي بالقرآن وأفقها، وذلك في قوله تعالى: "وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم" (النحل:44) فدور النبي هو التبيين وذلك ببيان تفاصيل وحدود القواعد العامة التي أشار اليها القرآن الكريم، كما أنه لا ينبغي الركون الى كل ما روي وما وجد في كتب التفاسير، والحذر من الوقوع في شرك بعضها التي قد تنسب زوراً وكذباً الى بيت الوحي، وهذا ما روي عن علي (ع): "لقد كُذب على رسول (ص) على عهده حتى قام خطيباً فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". فالواجب هو الرجوع الى التفاسير التي كتبها العلماء المحققون الذي يدرسون الروايات بحسب الموازين الشرعية ويأخذون منها ما وافق كتاب الله "كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف".‏

الشيخ سمير رحال‏

الانتقاد/ العدد 1236 ـ 12 تشرين الاول/ اكتوبر 2007‏

2007-10-12