ارشيف من : 2005-2008
"رائحتها تراب" لفاطمة بري بدير: "انتصار الركام" أو "حنين النجيع إلى عطش التراب"
مرة أخرى، تزرع فاطمة بري بدير بذار حبّها القديم للتراب في الأدب، فيمتزج بذرّاته المعجونة، بدماء الشهداء، نصّها الناجي من تحت ركام العدوان، ليفوح عنوانه، "رائحتها تراب"، برائحته الأصلية العائدة إلى زمن الشتوة الأولى للنجيع المقاوم فوق تراب الجنوب. يؤكد هذا التأويل تاريخ معظم نصوصه المكتوبة منذ مطلع التسعينات ومضامينها، التي بدت استشرافاً موظفاً في رؤية أدبية جديدة لصياغة وجدان أجيال آتيةٍ من الأرحام مرتبطة بالأرض المرتوية بدم الأسلاف (المقاومين طبعاً) سلاحاً، إن عزّ السلاح.
يتسع هذا النص لآمال كاتبته التي رأت أبطاله، يفعلون كل ما أراد عدوّهم منعهم من فعله، بحقده القاتل، فكتبته أميناً على أفعالهم والدماء، وبذلك سجّل هذا النص انتصاره على قتلة كلماته بعد العدوان، كما سجّل أبطاله انتصارهم شهداء على قاتليهم، وهذا دأب الشهداء من عهد علي(ع) والحسين(ع)، وسائر الأسماء التي عشقت قلوبها دروب الله فوق تراب الوطن. ربما كانت أهم قيمة جمالية، حملتها مضامين "رائحتها تراب" قدرة فاطمة على التعبير عن هذا الوله الصادق، الذي ربط نصها بقضايا مجتمعنا الممتد بين تلال الجنوب ونظيره بين بيّارات حيفا وبساتين الليمون في يافا ما أعطاه من جرأة المقاومين الذين يواجهون على هذه الدروب موتهم بالموت، صفة الأدب المقاوم الذي كتبت في ظله فاطمة أولى خلجاتها.
من كيمياء التراب وسيميائه، تصنع فاطمة الكلمة التي تستطيع أن تملأ في ساحات المقاومة، أمكنة متفاعلة، لا تملأها كلمات سواها، وهذه صناعة هرب من فخرها يوماً توفيق الحكيم ـ دون أن يقصد ـ عندما طلب من حكومته، أثناء حرب تشرين، أن تهيئ له عملاً يدوياً، يناسب سنّه، "بدل صناعة الكلمة التي لا مكان لها في معارك الشرف". وفي صناعتها هذه تصوّت فاطمة، لتعبير الأديب الروسي "مايا كوفسكي" "الكلمة قائد القوى البشرية"، وتحسن توظيفه في مكانه الطبيعي، "لبنان وفلسطين" مع جرحى مقاومتها وشهدائها وأسراها. أسجّل على فاطمة غياب نص الوجع العراقي، الذي يفترض أن تتداعى له سائر كتاباتنا، بالحبر والعاطفة، ففي نصّها، وعلى ضوء مصابيح أنارتها عاشوراء من طف كربلاء سار ظلّ عز الدين، الذي قلبه الرجل الآلي الصهيوني أمام كاميرات الشاشات العالمية، في بثٍ مباشر من الرصيف الفلسطيني، حلم لاجئي مخيمي صبرا وشاتيلا الذين لم يصلوه حتى على متن مقبرةٍ جماعية، رقدوا فيها على رجاء القيامة لبلوغ حق العودة. ومن جنباتها قطفت فاطمة باقتها الأدبية محتفية في ختام المجموعة بالبرتقال الفلسطيني بامتياز هذه المرة.
في نصها، يجد جواد قصفي وجه وردته "جميلة" التي لم يستطع الموت قصف ذكراها، ويستقبل والد الشهيد عريسه العائد من تراب فلسطين على متن شاحنة، وهو خلف نافذة مستشفى الرسول الأعظم وفيه احتضنت ايمان حجو زهرة مدارس فلسطين محفظتها، وشجاعة أمها، وانطوت على وجع عشرين طلقة صهيونية. وفيه أيضاً، ارتاح هادي السيد حسن من ملاحقة الصواريخ الاسرائيلية له، بعد أن احتضنه تراب "مركبا" وديعة حية حتى مطلع فجر نجاته لفضح أكاذيبهم الاعلامية. وفيه التقى "يحيى عياش" وليده الذي "هندسه" قبل استشهاده على مقاييس زوايا انتفاضته ومقالع حجارتها. فيه "صبحية" التي عادت جنوباً بقدم واحدة، حيث كانت قد تركت ذات يوم قدمها الأولى، قرب خلقينة القمح المسلوق. وفيه أيضاً، شهداء قانا "1" وقانا "2" والتموزين، وملامح القائد أبو علي رضا ياسين، والصقر الصامت أبو حسن سلامة، الذي قدّم ابنه للشهادة قبله، فعل أولياء الله في حب علي بن ابي طالب (ع)، وحجر بن عدي ليس غريباً عن المرتكزات الثقافية في وجدان رجال الله، ولا كاتبات أدبهم المقاومات بمدادهم، والمرابطات بأقلامهم على تخوم أدب الحياة.
إن كل هذه النصوص مجتمعة، فاحت رائحة التراب، بعد أن ارتوى يباسه، من حبر فاطمة ومدادها، الذي طغى على كل المقاييس الفنية للكتابة، ليصبح بذلك جزءاً من الفعل المقاوم، ونصا تكمن أهم ميزاته في قدرته على توصيل حرارة ايمانه، إلى من يتوجه اليهم، يعطي حياتهم يفوح عزة، تنشقوها مع فاطمة من التلال التي تلهم أدباً، ينهض من تحت الركام وهو يشير إلى هناك.. إلى تلةٍ شرّفتها يوماً قدم مقاومٍ، قد أضناه المسير، وما توقف الا ليقول بالنص الملآن: "رائحتها تراب".
ولاء ابراهيم حمود
هوامش:
(1 - 2) أدب الحرب، حنّا مينة، د. نجاح العطار.. دار الآداب.
(3) "رائحتها تراب" فاطمة بري بدير ـ قصص قصيرة، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، أصدرتها ووقعتها في 15/5/2007 في معرض المعارف الثاني.
الانتقاد/ العدد 1237 ـ 19 تشرين الأول / اكتوبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018