ارشيف من : 2005-2008
تجربة ناجحة
كانت تجربة أولى.. أحس خلالها أنها نجحت بعض الشيء.. وأنه أراد باتصاله مع احدى محطات التلفزة المقاومة.. وقد تسنى له ذلك ان يعبّر عن رأي.. أن يكشف ما يضج به صدره.. ويصرخ بأعلى الصوت.. لعل هذا الصراخ يريحه..
كان هدفه رسم صورةٍ.. واضحة المعالم.. عن وضع البلد المتردي.. هذا البلد الغريب العجيب.. التائه في متاهات مظلمة وسط افخاخ جهنمية.. نصبت له بعناية فائقة..
وتكلم بصوتٍ يلفه الانفعال.. قال الحقيقة.. مجردة من كل غرض.. يا جماعة.. اتقوا الله.. المقاومة الوطنية التي هزمت "اسرائيل" وعرّتها من جبروت زائف.. هي النقطة الوحيدة المضيئة في تاريخنا الحديث.. الحافل بشتى أنواع الهزائم.. وبرغم هذا هناك فئة ضالة.. مأجورة داخل الوطن.. تحاول جاهدة.. وتعمل ليل نهار.. على تجميل هزيمة "اسرائيل" في حرب تموز.. وتشويه انتصار المقاومة.. وقد شهد به العدو قبل الصديق..
وهذه الفئة ليس في قاموسها كلمة خجل وطني.. وحتماً سوف تجد مكاناً لائقاً بها فوق مزابل التاريخ..
لهؤلاء أقول.. أيها الحاقدون.. شئتم أم أبيتم.. المقاومة انتصرت و"اسرائيل" هُزمت .. مواقفكم شاذة، مشينة، تبعث على الاشمئزاز..
مرّت دقائق معدودة.. تحدث خلالها بصدقٍ وحرارة، ثم أنهى مداخلته، وأعاد سماعة الهاتف إلى مكانها.. بعد أن تسرّب إلى سمعه صوت مقدم البرنامج.. "أشكركم سيدي".. وتأكد أنه لو استمر في الكلام لما قاطعه الرجل.. ولكنه آثر عدم الإطالة.. وأحس براحةٍ نفسية بعد أن أفرغ ما في جعبته من آراء..
مرّت ثوان.. عادت إلى ذاكرته خلالها الأحداث الصاخبة.. التي عاشها الوطن وما زال.. بعد دحر العدوان الغاشم. أحداث تراءت أمام ناظره، وقد وقف محدقاً، في صورة معلقة في صدر غرفته المتواضعة.. مخاطباً صاحب الصورة تلفه سعادة عارمة...
سيدي.. لك محبتي وتقديري.. لقد أعدت أنت ورجالك إلى المواطن كرامته.. والى الأرض حرمتها وقدسيتها.. والى الأمة شرفها وعزتها..
فيا سيدي.. يا حبيبي.. يا قرّة عيني.. وهنا دمعت عيناه فرحاً.. باسم كل حبة من تراب هذا الوطن.. أحيي فيك.. ايمانك وشجاعتك وقيادتك الحكيمة لشعبك ولرجال المقاومة الوطنية.. أنا يا سيدي.. من جيل النكبة.. والنكسة. جيل زمن الهزائم العربية..أمام القوة الصهيونية.. التي قيل عنها منذ نشأتها إنها لا تقهر، ولكن بمشيئة إلهية وإرادة فولاذية وهمة عالية وعشقٍ دافقٍ للشهادة لفظ زمن الهزائم أنفاسه على أيديكم.. وكان الزلزال الكبير الذي ضرب الكيان الصهيوني في الصميم.. فبانت صورة الاهتراء في خلايا هذا الكيان جليّة واضحة.. لكل ذي بصرٍ وبصيرة..
وسكت الرجل السبعيني لدقائق.. ثم استطرد محادثاً صاحب الصورة من جديد.. وارتسمت هذه المرة فوق وجهه علامات من كآبة.. وقد تذكر نقطة فاصلة في حياته كمواطنٍ جنوبي..
أنت تعرفني جيداً يا سيدي.. تعرف الصبي الجنوبي المقهور.. وأمثالي كانوا كثراً في مطلع خمسينيات الجنوب اللبناني من القرن الماضي.. الجنوب الذي غرق طويلاً في غياهب الجهل والتخلف ومظالم رجال الاقطاع، تعرف الصبي الذي حرمته ظروف قاسية صعبة نعمة العلم فغادر قريته الجنوبية صبياً طري العود مهاجراً إلى داخل الوطن. مسكوناً بالخوف مما هو آتٍ.. بعد أن أرغم على ترك المدرسة ليصبح أحد ضحايا الزمن الرديء، وأضحى عاملاً في أحد مصانع بيروت بعد أن قدم "أوراق اعتماده" إلى مجموعة من البشر لا حول لهم ولا قوة.. لا أخفي عليك.. لقد بدأ وعي الصبي وحسه الوطني القومي يتناسيان باكراً.
الظلم الاجتماعي يا سيدي.. يفجّر داخل الانسان عوامل التمرد. وإدراك واقعه المؤلم.. فيبدأ البحث عن متنفسٍ طبيعي لطاقة هذا التمرد..
صدقني يا سيدي.. عندما كنت أعيش مواسم العز والبطولات خلال حرب تموز.. مع الملايين من محبيك.. كنت أرى ما يحدث من انتصاراتٍ بعيني جمال عبد الناصر .. فلربما أحس هو بنشوة النصر الفريد الذي طالما تمناه في حياته..
وبعد أن طال وقوف المواطن الجنوبي، أمام صورة "الحبيب" سيد المقاومة همس مطمئناً .. حيّاك الله يا سيدي.. وسدد خطاك.. وحماك من كل مكروه.. إنه سميع مجيب الدعوات..
صبحي أيوب
الانتقاد/ العدد 1237 ـ 19 تشرين الأول / اكتوبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018