ارشيف من : 2005-2008
الخادمات.. طبقة العبيد الجديدة
التزايد المطرد في عدد الفتيات القادمات من سريلانكا والحبشة والفليبين وغيرها من البلدان الآسيوية والأفريقية الفقيرة للعمل خادمات في بيوت اللبنانيين، أضحى ظاهرة لافتة تستمد من طبيعتها وظروف البلد الذي يحتضنها بعض غرابة تثير التساؤلات.
غرابة الظاهرة، وهي النقطة السلبية الأولى التي يمكن أن تسجل عليها، هي شيوعها في بلد فقير كلبنان، يعاني من أزمة اقتصادية متفاقمة جعلت أكثر سكانه عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم، فكيف لهم والحال هذه أن يستقدموا هذا العدد من الخدم؟ إن وجود الخادمات بهذه الأعداد الكبيرة في لبنان يكشف إحدى المفارقات في بنية المجتمع اللبناني الغني بالتناقضات، حيث تتعايش أقصى مظاهر الرفاهية مع أشد حالات العوز، وفي ذلك ما يعكس أهم مشكلاته.. وإذا كان الأجر الذي تتقاضاه الخادمة زهيداً في منظور البعض، وهو ما يتعللون به، وكان ما ترفعه عن كاهل ربة المنزل من عبء كبيراً في المقابل، إلا أن ذلك وإن أردنا تجاوز الجانب الاقتصادي في المشكلة، لا يلغي طبيعة الإشكال الذي تعكسه ظاهرة الاستخدام.
أولاً: لأن الحساب المادي الذي يجب أن تقوم به الأسرة قبل أن تقرر ادخال عنصر غريب عليها (وهو غريب فعلاً ديناً ولغة وثقافة)، ليس إلا جزءاً قليل الأهمية أمام ما يفترضه وجود ذاك الغريب من مشاكل للأسرة نفسها، بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفي. فقد سبب الاعتماد الكلي على الخدم في بلاد النفط الغنية التي سبقت لبنان الى هذا النوع من الاستخدام ـ وهو يبدو في تلك البلاد أكثر طبيعية منه في لبنان بسبب غنى تلك البلاد وفقر الأخير ـ مشاكل اجتماعية وجرائم عديدة، منها جرائم السرقة والزنا وحتى القتل. والخادمات في هذه الحالات ـ غالباً ـ مجرمات وضحايا في آن معاً، فوضعهن الدوني وما يمارس عليهن من ضغوط نفسية ومادية ـ يجعلهن في وضعية صعبة قد تحملهن على الانتقام بقسوة من مصدر عذابهن، وهو ما يحدث غالباً.
ثنائية العبد والسيد
ولأن معادلة الخادم والمخدوم تتضمن أحياناً معادلة السيد والعبد، ففي السيادة سلطة وسيطرة لا بد من أن تعبّر عن نفسها بالقهر، وفي العبودية مذلة لا بد من أن تغري السيد بمزيد من السيطرة. فقليلات جداً هن السيدات اللواتي يستطعن النجاة من ممارسة سلطة استعباد الآخر، أمام انسان يرى في خضوعه وتبعيته جزءاً من هويته وأحد مقومات دوره. فالخادمات دونما خضوع لا يمكن أن يكن خادمات، والسيدات دون سلطة لسن بسيدات، وهنا يكمن الخطر الأكبر الذي يحمله شيوع الاستخدام في البيوت، ذلك أنه يهدد بعودة زمن العبودية وقد كابدت البشرية طويلاً للتخلص منه.
وإذا كانت عبودية الأمس تفصح عن نفسها بالبشرة السوداء، فعبودية اليوم تفصح عن نفسها أيضاً باللون والشكل. ويكفي أن ترى سريلانكية أو حبشية أو حتى فيلبينية مع سيدة لبنانية لتعرف ان العلاقة بينهما علاقة عبد وسيد.. ومن الواضح أن النساء في لبنان يفضلن استخدام نساء من هذه الجنسيات، لأن سيادتهن معهن تكون واضحة وجلية لا تحتاج الى تعريف!
استقالة غير مدروسة
مقابل هذه السيادة التي تتمتع بها المرأة على خادمتها، تستقيل النساء من أدوارهن كراعيات لشؤون أزواجهن وأولادهن وبيوتهن.. وفي اعتقادهن أنهن يتخلصن من عبء تلك الأعمال، وهنّ بذلك يخسرن جزءاً مهماً من دورهن في الحياة، وموقعهن في حياة أسرتهن، وقدراً مهماً من عنوان التواصل بينهن وبين أولادهن من جهة وبينهن وبين أزواجهن من جهة أخرى، ويخسرن بالتالي قدراً من سلطتهن في الحياة الأسرية.
فالأطفال يتعلقون بأمهاتهم غالباً لأنهم يكونون على احتكاك دائم بهن، ولأن حاجات الطفل الجسدية الى الطعام والنظافة لا تنفك عن حاجاته النفسية الى الحب والاطمئنان والرعاية. ويشعر الطفل من خلال اشباع تلك الحاجات بعاطفة أمه وصدقها وأهمية تلك العاطفة بالنسبة اليه، وخارج اشباع تلك الحاجات لا يمكن أن يشعر الطفل بعاطفة أمة تجاهه أو يتلمس أهميتها، لأنها والحال هذه تغدو بالنسبة اليه مجانية لا مصداق عمليا لها. وكذلك الأمر بالنسبة الى الزوج، وإن كان أمر التواصل عبر الخدمات بين الزوج والزوجة أقل جلاء ووضوحاً لارتفاع مستوى العلاقة بينهما، إلا أن حاجة الرجل المادية الى رعاية زوجته لشؤونه تعزز ارتباطه بها، وإن لم تكن تلك الرابطة الزوجية قائمة على تبادل الخدمات، وهكذا فإن استقالة المرأة من دورها التقليدي كأم وكزوجة ينعكس سلباً على الأولاد أولاً الذين يفقدون حرارة الرعاية الأمومية، وعلى جو المنزل ثانياً وعلى العلاقة الزوجية، لا سيما أن غالبية النساء المستقيلات من دورهن التقليدي لا يضطلعن بدور بديل ذي فائدة وأهمية اجتماعية. وهكذا فإن انسحابهن من ذلك الدور يؤدي الى وقوعهن في الفراغ، فهن يقضين معظم أوقاتهن بالثرثرة مع الصديقات والجارات والقريبات، أو بالتجوال على المحال التجارية للتسوق، وهذا النموذج لا يمكن أن يكون بديلاً مقبولاً عن الدور التقليدي الذي ألفناه للزوجة والأم، وعرفناه في نشاط أمهاتنا الدؤوب وعملهن طوال اليوم على تأمين راحة كل أفراد الأسرة.
مساعدة؟!
قد نرى في كثافة وجود الخادمات دليلاً على وجود حاجة فعلية اليهن أفرزها بحث النساء عن دور جديد لهن وعدم رضاهن بدورهن التقليدي كأمهات وزوجات، فهنّ يجدن في ذينك الدورين حداً لطموحاتهن في التطور والعمل، والاستعانة بالخادمات يمثل بالنسبة اليهن حلاً لمشكلة عالقة مصدرها صعوبة التوفيق بين العمل داخل المنزل وخارجه، ما دام الرجل الشرقي غير مستعد حتى الآن للمساهمة في الأعمال المنزلية وغير قادر على تقديم تلك المساعدة.
إلا أن النظرة الإيجابية قد تنتفي بمجرد قياس الموضوع على سلبياته التي سبق ذكرها، وبمجرد أن نعرف أن حجم النساء العاملات على تحقيق تطورهن الشخصي ضئيل قياسا الى النساء الواقعات منهن في فخ الفراغ.. هذا فضلاً عن أن تلك الإيجابية لا تنفي المشكلة الأساسية التي تطرحها فكرة الاستخدام، فلماذا يجب على الآخرين أن يقوموا نيابة عنا برعاية شؤوننا الحياتية، من نظافة وتأمين الطعام والشراب وما إلى ذلك، وهي ألصق الأمور بنا وأقل واجباتنا تجاه أنفسنا! ألا يشكل قيام كل انسان بعمله بنفسه واجباً طبيعياً عليه؟
وإذا كان الأولاد ـ بطبيعة الحال ـ قاصرين في مراحل عمرهم الأولى عن تلبية حاجاتهم، ألا تشكل مساعدتهم على تخطي تلك المراحل حتى يصلوا الى مرحلة كافية من النضج الجسدي بحيث يصبح بإمكانهم تدريجياً الاعتماد على أنفسهم، جزءاً أساسياً من وظيفة الآباء والأمهات في الحياة؟
إذا كان جوابنا عن كل هذه الأسئلة ايجابياً، وهو يجب أن يكون كذلك لأنها أمور بديهية، فإن على الأسرة الحديثة التي تود المحافظة على تماسكها في الوقت نفسه الذي تعتبر فيه عمل المرأة على تطوير نفسها حقاً طبيعياً لها، أن تجد شكلاً جديداً للعلاقات السائدة فيها يقوم على التعاون المشترك وعلى توزع الأعباء والمسؤوليات، ويجعل من اتكال الفرد على نفسه في أموره الحياتية أمراً طبيعياً بالنسبة اليه منذ الصغر، وأن صيغة التعاون التي تحمل كل فرد على تحمل ما يخصه من عبء، تعزز التواصل وتلغي مظلومية أي أحد يتحمل وحده مسؤولية الآخرين.. وهي فوق كل ذلك تحل المشكلة من جذورها، بدلاً من الهرب منها باستقدام غريب تُلقى عليه كل أعباء الذات، مهما كان العنوان والمبرر.
منى بليبل
الانتقاد/ العدد 1237 ـ 19 تشرين الأول / اكتوبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018