ارشيف من : 2005-2008

صعود أهل السنّة والجماعة وهبوطهم

صعود أهل السنّة والجماعة وهبوطهم

الانتخابات الرئاسية عام 1988، أعدّ مركز المخابرات المركزية الأميركية في بيروت دراسة عن وضع الطوائف والقوى في لبنان، والتطورات المتوقعة في بيروت ارتباطاً بما كان يجري في الشرق الأوسط. وأشار التقرير السري، الذي أفرج عنه ضمن سياسة علانية الوثائق القديمة ونُشر على موقع المخابرات المركزية على الإنترنت، إلى ظاهرة صعود الشيعة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. وصنّف التقرير تلك الظاهرة في خانة السلبية، وخصوصاً مع تحالف الشيعة مع سوريا، والتزام جزء منهم التعليمات الإيرانية.‏

يمكن تخيّل نوعية التقارير التي يكتبها اليوم مركز المخابرات المركزية الأميركية في لبنان. يمكن تخيّل كيف يُقوّم انخراط السنّة في الدولة الطائفية. يمكننا تخيّل كيف سنقرأ بعد عشرين عاماً تقرير المخابرات المركزية الذي يشير الى السنّة كطائفة تتطلّب الرعاية الأجنبية، كما جرى ربّما مع الدروز والموارنة في نهايات القرن التاسع عشر.‏

في المجالس الخاصة، لا ينكر أحد من السياسيّين أن لبنان يعيش دائماً انتصار طائفة على أخرى، وأن شعار «لا غالب ولا مغلوب» الذي أطلقه الرئيس صائب سلام عقب «ثورة عام 1958» هو في حقيقته محاولة ترطيب وتلطيف لواقع انتصار فئة بعينها على أخرى. فقد جاء الشعار في زمن انتصر فيه السنّة العروبيون على المسيحيين، وحقّقوا تقدّماً سياسيا أولياً احتاج الى استكمال طويل لم ينجزه العروبيون لأسباب تعود ربّما إلى كونهم غير معنيّين بالحكم اللبناني.‏

فالسنّة في لبنان لهم شأن آخر. إذ إنّهم لم يتشكّلوا كطائفة، فانتموا إلى الطبقة السياسية التقليدية وأقطابها، أو أيّدوا الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية بصفتها دولة الخلافة، أو ناصروا القومية العربية والعروبة بمختلف أوجهها.‏

الموروث والعروبة‏

خلال حقبة حكم الرئيس أمين الجميّل، نبّه مرجع دينيّ أحد أصدقائه السياسيين من مغبّة الحمل على السلطنة العثمانية. «لا تخطئ»، يقول المرجع، «العثمانيّون منّا ونحن منهم». ويقول السياسي الذي أصبح أحد نوّاب كتلة المستقبل، في حواره مع «الأخبار»، ان كلام المرجع الديني هزّه قليلاً ودفعه إلى التفكير بعمق اكبر، وصارت قراءته لتاريخ المنطقة تضيء له التصرفات العثمانية ليس بصفتها قهراً واحتلالاً للمنطقة، بل بصفتها إدارة إمبراطورية لمنطقة حكمها. ويعطي مثالاً على ذلك رفض السلطان عبد الحميد بيع الأراضي في فلسطين الى اليهود، رغم ضائقته المالية الشديدة حينذاك.‏

فمن هم السنّة؟ هل هم عثمانيّون مسلمون؟ أم عروبيّون ناصريّون وقوميّون؟ أم واحدة من فئات لبنان المؤسّسة للكيان؟‏

إنّهم «خليط من الاثنين (العثماني ـ الإسلامي والعروبي)»، يقول وريث زعامة سنّية عريقة. يتوقّف للحظات للتفكير قبل أن يضيف إنّ «السنة لم يكونوا فئة (وهو يعني طائفة مشاركة في نظام فيدرالية الطوائف)، بل تحولوا أخيراً إلى ذلك».‏

والواقع أنّ السنّة لم يشاركوا بفاعليّة ولا بحماسة في الحركات السياسية العروبية التي نهضت لمواجهة السلطنة العثمانية الضعيفة في أواخر القرن التاسع عشر، وهي حركات كانت تطالب بكيانات عروبية تحت سقف الإمبراطورية المتداعي. وبعد انهيار السلطنة، انتهى طرح الكيانات العروبية، واتجه المسيحيّون الى تكوين كيان خاص لهم، فيما اتّجه العرب في محيط لبنان إلى إطلاق نوع من العروبة العلمانيّة تقوم على تحالف بين قوى وقبائل وعشائر معادية ببنيتها لأبناء المدن الذين ردّوا عبر المناداة بعروبة إسلامية. فبدوا بالتالي أقرب الى الحفاظ على تقاليد السلطنة. وتحولت عروبة الشريف حسين والملك فيصل الى أحزاب، منها الناصري والبعث وغيرهما، وتحولت بورجوازيات المدن إمّا الى هزائم مطلقة كما في العديد من العواصم العربية، وإما الى تسويات مؤقتة مع محيطها كما في لبنان.‏

لبنان الهدية‏

قبيل سقوط السلطنة العثمانية، كانت الحركة الإرسالية، في ما سيعرف لاحقاً بدولة لبنان، تسير على قدم وساق. الجامعة الأميركية في بيروت تخرّج سنوياً المزيد من الكوادر المتعلّمة وغالبيّتهم من المسيحيين، فيما الجامعة اليسوعية تضخّ المزيد من الكوادر المسيحية الجاهزة للعمل في شتى المجالات والإمساك بمفاصل الحركة التجارية والتعليمية والصناعية والطبية وغيرها. ولم يكن لدى المسلمين أي أرضية اجتماعية او اقتصادية ينطلقون منها في بناء الذات.‏

أتت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وأطلقت بيانها الأوّل «الفجر الصادق» الذي يحدّد، بحسب وريث الزعامة البيروتية الأعرق، «التعليم بصفته المدخل إلى التطوّر ويلحظ التعليم الذي تعتمده الإرساليات الأجنبية للمسيحيين في لبنان، ويحدد الفترة التي سبق بها المسيحيون إخوتهم المسلمين في لبنان بـ15 عاماً».‏

بيان “الفجر الصادق” طبع عام 1297 هجرية (1879 ميلادية)، ويورد كيف حُرم أبناء الطائفة التعلم سواء لأن المدارس في «الوطن» (بحسب ما يورد النص دون ان يكون قد تشكّل لبنان حينذاك) محصورة بطوائف بعينها، أو لأن المدارس «الملقّبة عمومية» لا توافق مبادئ تعليمها «المشرب الإسلامي».‏

انطلق المسلمون في رحلة التعلّم، وانهارت بعدئذ السلطنة، وقدّمت المجموعات العربية لبنان «وطناً هدية الى الفرنسيين والإنكليز في مكرمة عربية تعلن عزوف العرب عن خوض حروب صليبية جديدة مع المسيحيين الغربيين»، كما يرى أحد الأقطاب البيروتيين المحايدين الذي يضيف إن المسيحيين «رأوا أن وطنهم لبنان حق خالص لهم». ويردف «أنّ فهمهم أنّ السنّة لم يشاركوا فعليّاً في صيغة عام 1943 ولا في إنشاء لبنان الكبير عام 1920 هو ما يدفع شخصاً مثل سمير جعجع إلى الإعلان بعد أكثر من نصف قرن بأن السنة أصبحوا لبنانيين».‏

طوال هذه الأعوام كان من الممنوع تقريباً على المسلمين التعلم، السنة والشيعة على حدّ سواء. وثمّة معركة استمرت اكثر من عشرة أعوام لإنشاء جامعة بيروت العربية والاعتراف بشهاداتها. وشكّلت مدارس المقاصد لفترة طويلة من الزمن الرد الوحيد على الإرساليات الأجنبية.‏

إلا أن إحدى الشخصيات البيروتية تروي أن ما أخّر دخول أبناء الطائفة في الأعمال الأساسية المكوّنة للكيان اللبناني من خدمات مصرفية وسياحية هو الموروث الديني حصراً. تنحاز هذه الشخصية الى التحليل القائل إن أهل السنّة كانوا في أغلبهم مؤيدين للسلطنة العثمانية، ويرون فيها دولة الخلافة الإسلامية. وموروثهم الديني هو ما حدا بأكبر المطاعم في الوسط التجاري، مطعم العجمي، الى عدم تقديم الخمر حتّى انفجار الحرب الأهلية عام 1975. الموروث الديني نفسه دفعهم الى الامتناع عن استلام الفوائد على إيداعاتهم المصرفية الباهظة، التي كانت تترك فوائدها لأصحاب المصارف من المسيحيين.‏

وتضيف هذه الشخصية إن الدخول المتأخر لأبناء السنة والمسلمين الى القطاعات المصرفية والسياحية أتى نتيجة ذوبان الموروث الديني في العاصمة بيروت حصراً، وذلك بعد فترة طويلة على قيام الكيان اللبناني، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية وما بعدها. ولا يزال من السهل رصد الموروث الديني في المناطق السنيّة (الشمال والبقاع وإقليم الخروب والجنوب) والمدن السنية الأخرى كطرابلس وصيدا.‏

العروبة والشيعة‏

كان يكفي أن يعترض رئيس الجمهورية فؤاد شهاب على إشعال صائب سلام، رئيس حكومته، لسيجاره في السيارة حتى يقدم سلام استقالته من الحكومة. يمثّل سلام في ذلك ثقلاً نوعياً إسلامياً مقابل القوة التي أنشأ بها الموارنة وطنهم القومي عام 1943، وشكّلوا حكوماته من شخصيات قد لا تتمتّع بقوة ووزن سياسيين. إلا أن ذلك انتهى. فبعد أن كان السنة يختبئون خلف العروبة وهم يضمرون الإسلام والرغبة في العودة الى حكم الخلافة، استعاد المسلمون الثقل النوعي في النظام اللبناني مع المدّ الناصري.‏

يروي أحد نواب تيار المستقبل عن الامتلاء الذي عاشه المسلمون والبيارتة خلال تلك الحقبة. ويوضح أنّ «البيارتة هي التعبير المخفف للفظ السنّة، والمسلمون هي التعبير اللطيف للطائفة، وخصوصاً أن الشيعة حتّى نشوب الحرب الأهلية لم يكونوا يشكلون ثقلاً فعلياً في المعادلة الداخلية، وأن من النتائج الطبيعية للصعود الناصري هي تصاعد النفوذ السنّي الذي لم يُترجَم ضمن حلقة التوازنات الطائفية الداخلية»، وذلك، ببساطة، لأن السنّة لم يوافقوا ولم يعترفوا بلبنان النهائي ككيان، ولا عدّوا أنفسهم كتلة طائفية او فئة محلية.‏

فالعروبة بالنسبة إلى الشخصية البيروتية هي نوع من التستّر والحماية والاختباء من الواقع الإسلامي العميق الذي لا يرى السنّة بديلاً عنه، فيما هي بالنسبة إلى النائب المستقبلي حالة بديلة أتت لتملأ فراغا شكّله انهيار السلطنة العثمانية، ومن بعدها المشاريع العروبية الأخرى ما قبل الناصرية. والنتيجة عملياً واحدة، وهي تأييد السنّة للعروبة وعدم انخراطهم في لعبة تقاسم سلطة محلية.‏

البيارتة لم يختزلوا المسلمين وحسب، بل اختزلوا أيضاً الشيعة الذين كان يفضّل نظام ما كان يدعوه اليسار بـ«الطغمة المالية» عدم رؤيتهم الا بصفتهم يداً عاملة رخيصة. وهم من كان يفاوض عدد من الشخصيات اللبنانية على بيع مناطقهم الى اليهود (بحسب كتاب عدوّ عدوّي للباحثة الإسرائيلية لورا إيزنبرغ) قبل اعلان دولة لبنان الكبير.‏

وانقسم البيارتة تجاه المناطق السنية الأخرى بين مدرستين: الأولى ترى أن المناطق هي الخزان، ومنها تنهل القوى اللازمة لتنفيذ مشاريعها سواء عبر الانتخابات او غيرها، فيما ترى الثانية أنه من الضروري تنمية التعليم والعمل في هذه المناطق. وهذه الوجهات قديمة قدم صيغة عام 1943، وما قبلها. فقد انطلقت المقاصد في نشر مؤسساتها التعليمية في المناطق بعيد نهاية القرن التاسع عشر، فيما اتجهت مؤسسات سياسية الى اختصار المناطق بزيارات سياسية تعبوية وانتخابية موسمية.‏

في مرحلة الصعود الناصري الأولى بعد ثورة عام 1952، وجد السنّة الأجوبة على فراغ وطروحات عروبية متنوعة. إنها الناصرية التي ساقت شوارع بيروت الى اليسار والى اليسار العربي الناصري، وأحياناً كثيرة الناصري الضبابي. وانعكس كل ذلك على العلاقات الداخلية للطوائف. كل انتصار أو إنجاز أو تضامن مع مصر العروبة سيعني قوة إضافية للسياسيين السنّة. وبعدما كان المسلمون منقسمين ومشتّتين، صاروا متحدين خلف شخص واحد: جمال عبد الناصر.‏

إلا أن تدقيقاً في الصورة يعطي معنى آخر. النائب المستقبلي يقول إن «المد الناصري عزل الى حد بعيد بين القيادات السنية التي كانت توصف بالتقليدية، وبين القواعد السنية المتعلّمة والشعبية». وهو ما أدّى إلى صعود قيادات شابة وقريبة من كمال جنبلاط، صديق عبد الناصر، والى بروز التنظيمات الناصرية المتعددة، مقابل الشخصيات التقليدية. لكنّ العديد من هذه الشخصيات استطاع التأقلم الى هذا الحد أو ذاك مع المد الناصري، ومع انتقال المزاج العام، من دون أن يعدّل هذا الانتقال من واقع أنّ السنّة طائفة خارج النظام وخارج المحاصصة وينتمون الى فضاء اوسع من حكايات «القرية اللبنانية» التي كان يغنّيها الأخَوان رحباني في مسرحياتهما.‏

وفي الحقبة الممتدة الى الستّينيات من القرن الماضي، أضيفت الى مؤسّسات التعليم السنّية شبكة من الخدمات الرعائية. صار يمكن التعلّم والتطبّب والحصول على مساعدات وحتى منح تعليمية، وصار بإمكان «المسلمين» الافتخار بدُور رعاية الأيتام والمسنين. صاروا جسماً تماماً كما شكّل المسيحيون جسماً متكاملاً ومتكافلاً في البلاد. إلا أنهم لم يستثمروا ذلك في المحاصصة السياسية، بل تركوا شارعهم مفتوحاً للآخرين، «لشيعة يحملون راية أرثوذكسية ويتظاهرون في شارع سنّي»، كما كان يردّد الرئيس تقي الدين الصلح، ابن صيدا الذي عاش كل حياته في العاصمة بيروت.‏

«الفجر الصادق» للعام 1879‏

يورد كتيّب «الفجر الصادق» لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت (1297 هـ) وتحت عنوان «الأسباب التي دعت إلى تأليف الجمعية» الآتي:‏

«لا يخفى على كل ذي بصيرة من أبناء الوطن أنه منذ مدة، ليست بقصيرة، أخذت الطوائف المختلفة الموجودة فيه تؤلف جمعيات خيرية تقوم بمصالحها اللازمة كافتتاح مدارس للذكور والإناث، يتعلمون فيها أنواع العلوم والمعارف واللغات، جاعلة واردات أوقافها المضبوطة بيدها رأس مال لأعمالها، مستندة على ما يتبرع به أولو البر والإحسان من طوائفها وعلى مساعدات الأجانب المالية. وقد خصصت للابتدائية من هاته المدارس الأماكن المناسبة، وللداخلية القصور العالية واستحضرت لها معلمين بارعين ووجهت خواطرها في الدرجة الاولى الى تعليم أولادها لغات الأجانب الذين لهم مع بلادنا الاتصاليات التجارية، والأذكياء منهم علوم الطب والجراحة والكيمياء والرياضيات وغيرها أيضاً من العلوم المفيدة الضرورية للأوطان التي هي أساس التقدم والعمران. فما مضت مدة على سيرها بهذه الطريق إلا انتشرت بينها أشعة شموس تلك العلوم والمعارف واللغات، فاهتدى أبناؤها بأنوارها الى إيجاد المطابع ونشر الجرائد وتطبيب المرضى الفقراء في المستشفيات العمومية، فضلاً عن معرفة الوسائط المؤدية لكسب المال والراحة والرفاهية وغير ذلك من الأمور المحبوبة للإنسان. ولما كانت تلك الجمعيات طائفية محضة، كانت أعمالها الخيرية أيضاً. فلم تتخط دائرة طائفة غيرها. أما الطائفة الإسلامية فإنها كانت غافلة عن ذلك نحو خمس عشرة سنة مقتصرة من المدارس على بعض زوايا مهجورة مملوءة بالعفونة والرطوبة، ما يضر بصحة الأولاد العمومية ومن المعلمين على المشايخ العميان الذين لا ننكر فضلهم لأنهم قاموا بواجباتهم على قدر استطاعتهم، ومن الأطباء على أناس من الحلّاقين والحجامين وبقيت محرومة من الفوائد التامة بالمدارس الملقبة بالعمومية لأن مبادئ تعليمها لا توافق المشرب الإسلامي من وجوه معلومة. كيف لا وقد يشترط في بعضها على التلامذة الخضوع لدين المدرسة. نعم يوجد من طرف الحكومة السنية مكاتب الرشدية الملكية والعسكرية وهي وإن كانت عمومية إلا أنها لا تقبل المبتدئين من التلامذة الذين إذا لم يكن في طائفتهم مدارس ترشحهم للدخول الى هاتيك المكاتب حرموا منها. وهكذا كانت القوة الدافعة الى التأخر في الطائفة الإسلامية المنبعثة من هذه الموانع والمصادر تعادل القوة الجاذبة الى التقدم بمغناطيس المدارس والمكاتب في الطوائف الأخرى التي مر ذكرها مما كاد يقضي على مجموع جسم وطننا العزيز بالمرض العضال الذي انتعشت بمستقبله روح العصر لأن تأخر هذه الطائفة التي هي أكثر عدداً أثّر أيضاً بتقدم غيرها تأثيراً كبيراً، ما جعل كثيراً من العقلاء يحكمون بلزوم جعل هذه الجمعيات الطائفية عمومية تخدم مقاصد ذات مبدأ واحد وذلك لانتفاع مجموع جسم الوطن بها. إذ إن تقوية عضو منه دون آخر لا تأتي بالفائدة المقصودة، فضلاً عما ينشأ بذلك من التباين والتنافر بين طوائفه بالنظر لتفرق المبادئ والمقاصد في أمر التعليم وأقاموا على ذلك دليلاً وهو أن تقدم تلك الطوائف ذوات الجمعيات ما زال مثقلاً بتأخر بقية الطوائف الخالية عنها. فهو كأنه لم يكن من حيث الفائدة العمومية التي هي كالروح للجسم، ولكن إن شاء الله تعالى سيعترف كل من بيده الحل والربط بلزوم اتحاد هذه الجمعيات الخادمة للإنسانية والفقراء إذ كل منها يسعى لمقصد واحد، فتفرقها بالسير للوصول الى هذه الغاية لا ينتج سوى العاقة، وإن كانت الأمور مرهونة بأوقاتها على أنه طالما أحسّت الأمة الإسلامية في وطننا العزيز بلزوم تأليف جمعيات لها تخدم هذه المبادئ».‏

ــــــــــــــــــــــــ‏

صعود أهل السنّة والجماعة وهبوطهم (2/3)‏

فداء عيتاني‏

الثورة الفلسطينيّة والحرب: الهزيمة وما تلاها من حريريّة‏

تعرّض السياسيّون السنّة التقليديّون لضغط هائل خلال المرحلة التي تلت مباشرة حرب عام 1967، الهزيمة الأكبر التي عاشتها الدول العربية والتي أغرقت جمال عبد الناصر وجماهيره. إلا أنّ المهرب كان جاهزاً، ولم تُترك الساحة للفراغ. فبدأت تنظيمات الثورة الفلسطينية ترث كوادر حركة القوميين العرب، وراحت الجماهير تهرب من واقع الهزيمة الى حلم المقاومة الفلسطينية والفدائيين. اتّكأت النخب السياسية على هذه المقاومة وعلى حرب الاستنزاف التي شنّها عبد الناصر على إسرائيل لترسم أفقاً مشرقاً، وانطلقت الطبقة السياسية التقليدية في مساومات هنا وهناك، فيما انفتحت مناطق الجنوب شبه الخالية سياسياً أمام المنظمات الفلسطينية.‏

في ظل ضغط «النكسة»، تعرّض الشارع السنّي إلى هزيمة، كما يروي أحد الأقطاب البيارتة، حين انعقد الحلف الثلاثي وهزم لوائح «السنّية التقليدية» عام 1968. ثمّ جاءت انتخابات عام 1972 التي تأسّست على حرب الاستنزاف واتفاقية القاهرة (1971) والتحضير لحرب عام 1973 على إسرائيل، وعلى ميليشيات الفدائيين في بيروت وصعود اليسار وانتشار القوى الناصرية بحركاتها التنظيمية. وكان قد أصبح للسنّة قاعدة صلبة اقتصادياً واجتماعياً، فأتت الانتخابات شبيهة بقاعدتهم الصلبة هذه، وساهم «التقليديّون السنّة» حينها في إفساح المجال أمام الشباب والناصرية. غير أنّ هذه الانتخابات أسّست لحرب رفضت فيها «الطغمة المالية» و«المارونية السياسية» تقديم أيّة تنازلات داخلية.‏

«ضرب السنّة بسيف غيرهم وطالبوا بالغنم»، يقول قطب بيروتي وهو يصف الموقف السنّي خلال بدايات الحرب الأهلية. ويصف نائب عن تيار المستقبل موقف السنّة بالانحياز الى المقاومة الفلسطينية، والابتعاد عن الزعامات التقليدية التي خبا دورها رويداً رويداً، وتعرّضت للضربات المتتالية من أكثر من جهة.‏

إلا أنه، خلال فترة النزاع، أدّت دار الفتوى دوراً رئيسياً، إذ كانت هي المرجعية الفعليّة، وكان المفتي حسن خالد يردّد في مجلسه أمام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات خلال بدايات الحرب الأهلية في لبنان أنّ «فتح هي ميليشيات السنّة». ولا تنبع هذه المقولة من حاجة السنّة الى ميليشيا، بل من حقيقة كونهم لم يجدوا أنفسهم بحاجة فعلية الى التدخل مباشرة في النزاع بصفته حرباً أهلية، وخصوصاً في ظل علاقتهم الملتبسة بالنظام اللبناني، وعدم تشكّلهم طائفةً على غرار الطوائف الأخرى. فلطالما حافظ السنّة على مسافة بينهم وبين الصراع الداخلي وانتسبوا الى الصراع العربي ـ الإسلامي ضد اسرائيل، وأدخل جمال عبد الناصر في خطابهم العداء للغرب، علماً أنه بقي عداءً لفظياً.‏

وللدقّة، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ ما سبق لا يعني عدم تشكّل طبقة من الإنتلجنسيا ومن الموظّفين الرسميّين الذين يدينون للدولة اللبنانية بالولاء، ويرفضون الانتماء إلى بعد عربي أو بعد محلي طائفي.‏

الهزيمة والقرار‏

«لم يشعر السنّة بالهزيمة إلا بعد الخروج الفلسطيني من لبنان (أيلول عام 1982)»، كما يقول أحد الأقطاب البيارتة. و«لم يشعروا بعمقها إلا بعد انتفاضة عام 1984 وتسلّم الميليشيات، وخصوصاً الشيعية منها، زمام الأمور في بيروت»، بحسب الوريث لزعامة بيروتية تقليدية الذي يقول ان السنّة شعروا أيضاً بالهزيمة فعلياً في منتصف تسعينيات القرن الماضي، يوم أحسّوا بأنّ «شيئاً ما قد تغيّر».‏

فالطائفة الكبيرة التي تحلم بالوحدة العربية وبدولة الخلافة الإسلامية، وصاحبة شبكة علاقات داخلية مالياً وسياسياً مع كل أركان النظام اللبناني، والتي أُشركت في ميثاق عام 1943 من دون رغبة أو اندفاعة كبيرة منها، لم تهزها هزيمة المقاومة الفلسطينية كما هزتها هزيمة عام 1967، ولم تهزّها مجزرة صبرا وشاتيلا كما هزّها سقوط الإمبراطورية العثمانية. ولا يزال بعض سياسييها البيارتة يروون بفخر قصة مقاومتهم الدخول الاسرائيلي الى بيروت عقب مقتل بشير الجميل، بالتوازي مع روايتهم مقاومة المدّ الشيعي الدرزي. فقد اهتزّت هذه الطائفة حين سيطرت ميليشيات الحزب التقدّمي الاشتراكي (الدرزية) وحركة أمل (الشيعية) على بيروت.‏

«أُوقفت سيارة المفتي حسن خالد في منطقة ساقية الجنزير عام 1984»، يقول النائب عن تيار المستقبل. «توجّهنا جميعاً الى دار الفتوى في منطقة عائشة بكار. امتلأت الدار بعشرات السياسيين والنسوة وغيرهم، والكل يصرخ خوفاً وهلعاً واستنكاراً لما وصلت إليه حال أبناء الطائفة، الى ان صرخ صحافي من «السفير» بالحضور طالباً الصمت. ثمّ ضرب الطاولة بيده وهو يصرخ: «مهما فعلوا فالقرار سيبقى هنا»، وهو يعني داخل جدران دار الفتوى، كما لدى الطائفة.‏

بيد ان الطائفة لم تتخذ شكلها التقليدي. لم تكن أكثر مما سبق لها أن شكلته. لا بل تشرذمت بعد تعرضها لضربات تمثلت في القضاء على «المرابطون» (1984-1986)، وعلى «حركة 6 شباط» (1986)، وعودة الجيش السوري الى بيروت (1987)، وصار الفراغ هو السائد، كما يقول النائب عن تيار المستقبل، الذي يضيف أنّ مقتل رشيد كرامي ومن بعده المفتي حسن خالد أشاع الفراغ الذي لم يتمكّن أحد من المرجعيات السنّية ملأه. فهذه المرجعيات لم تكن ملتصقة بالشارع، ولا تعرف قواعد لعبة الزعامة اللبنانية المبنية على الخدمات وعلى التقديمات والمحسوبية، وهذا ما ينطبق مثلاً على تفكير الرئيس سليم الحص الذي يرفض المحسوبيات، ولا يعتبر نفسه زعيماً طائفياً، من قريب ولا من بعيد.‏

بدأ رفيق الحريري، في هذه الأثناء، محاولاته ملء الفراغ خدماتياً واجتماعياً. فأنشأ أوّلاً مجمع كفرفالوس الذي دمّره الاجتياح الإسرائيلي (1982). وأعقبها بمدّ المساعدات التعليمية عبر المنح والقروض، التي شملت «جيشاً» صغيراً من ثلاثين ألف شخص.‏

وفي هذه المرحلة، بدأ ذوبان الموروث الديني يفتح الآفاق للسنّة للدخول في التجارات والصناعات غير الإسلامية، من المصارف وغيرها. وبدا وكأنّ التطوّر المدني والحرب الأهلية وما رافقها قد أضعف التشدد الاسلامي، وخصوصاً في بيروت، فيما بقيت المناطق تحافظ على طابعها الاسلامي إلى اليوم، بحسب ما يرى القطب البيروتي. وبدأت بالمقابل حالة التراجع في مؤسسات الطائفة التعليمية والاجتماعية بفعل ظروف الحرب. بعدها، اغتيل المفتي حسن خالد، وفي نهايات الحرب زاد التراجع تراجعاً، وخصوصاً مع بداية الحقبة الحريرية في الحكم.‏

الحريرية والزعامة‏

يختصر أحد نواب تيار المستقبل كل الكلام بالقول: «ذهبت الى لائحة الحريري لأنّه شكل الزعامة». وكان الحريري قد سأل نائباً آخر إن كان (السنّة) يحبّون المعارضة، مع عزم الحريري التحوّل لقوّة معارضة (عام 1998)، فأجابه النائب بالقول: «السنّة يحبّون الأقوياء يا دولة الرئيس».‏

كثيرة هي الدلائل التي تشير الى استرشاد رفيق الحريري بهذه البديهيات في السياسة اللبنانية. إلا أنّ الدلائل على حفاظه على نمط السنّة الخارجين على نظام المحاصصة الطائفية في البلد تكاد تكون معدومة، إذ هو من كرّس جسم الطائفة كحالة صلبة في مواجهاته مع رئيس الجمهورية إميل لحود خلال المرحلة الممتدة من عام 1998 الى عام 2005، بحسب تقاطع المرجع البيروتي ووريث الزعامة. ومما سمح لرفيق الحريري بحرية الحركة والمناورة هو تراجع كل الطروحات العروبية، وانكفاء كل المشاريع السياسية في المنطقة العربية.‏

قبل وصول الرئيس إميل لحود الى قصر بعبدا، لم تلقِ الحريريّة بالاً إلى المناطق الإسلامية. انحصر الاهتمام الفعليّ للحريرية بالتحالفات الفوقية مع كل الطوائف، والعناية بمشاريعها الخاصة وبمحيطها المتعدد طائفياً تبعاً لتعدد نواب الكتل النيابية الحريرية وصفّ المستشارين لرفيق الحريري.‏

أشدّ معارضي الحريري الأب يتّهمونه بالقيام بما قام به للحصول على الزعامة الشخصية، ولتمرير مشاريعه الخاصة. ويشير المحايدون إلى أنّه يمكن المؤيّدين لرفيق الحريري الردّ على الاتهامات، لكنّها تبقى أسئلة مدوية. أمّا المؤيّدون للحريريّة فيقولون إنّه سعى في البداية إلى تأليف حلقة واسعة من الحلفاء وتيار غير طائفي، إلا أنّ تركيبة البلاد كانت تدفعه الى الاحتماء بالجمهور الطائفي.‏

لعلّ أوّل ما اشتكت منه المؤسسات التابعة للطائفة السنية بعد نهايات الحرب الأهلية هو حصر المساعدات السعودية ببوابة رفيق الحريري ومؤسساته. ويشكو العديد من الأقطاب من حالة حصار فعلية تعرّضت لها المؤسسات. فمستشفى البربير، حين وقعت في مشكلة الوراثة والإدارة بعد وفاة صاحبها، لم تجد من ينقذها. ويروي أحد أعضاء اللجنة التي كُلّفت الإشراف على المستشفى أنه حين فاتح الوزير (آنذاك) فؤاد السنيورة بحاجة المستشفى الى مليوني دولار للخروج نهائياً من أزمتها، أتاه الجواب «لا تطرقوا هذا الباب»، قاطعاً الطريق أمام إعادة إنعاش المؤسسة الحيوية. كذلك كان وضع جمعية المقاصد التي شهدت تراجعاً حاداً في خدماتها وفي مستواها التعليمي، وصولاً الى حد استقالة رئيسها تمام سلام عقب هزيمته في الانتخابات النيابية عام 2000. حتى دار الفتوى صارت تتلقى المساعدات السعودية عبر بوابة رفيق الحريري الذي، للمناسبة، يقرّ أعداؤه وأصدقاؤه بأنّه لم يلمس أهمية الزعامة السنية، بل كان يسعى للزعامة الوطنية الأكبر مدى. ويردّ معارضوه ذلك إلى عدم فهم الواقع اللبناني والى حالة من «الأنا الكبيرة» التي لم يتمكّن من ترجمتها في الحقل السياسي. أمّا المحايدون فيقرأون تلك المرحلة بصورة مغايرة.‏

بداية عصر جديد‏

«فقد السنّة شيئاً ما، وشعروا بنقص أصاب وضعهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي عامة»، يقول وريث الزعامة البيروتية. «انتفت الحماية الاجتماعية، وتراجع دورهم الاقتصادي، وانحسر تأثيرهم، والحريري قدّم بعض جوانب الخدمات. ومقابل كل كلام يطلق حول ضرب الحريري لمؤسسات الرعاية الاجتماعية والوجود السياسي للطائفة، ستسمع إجابات من طرف الحريريين من نوع أنه علّم 30 ألف شاب وشابة، علماً أنهم ليسوا كلهم من السنّة، وأنّ عدد المنح خُفّض مع مرور الأعوام الى حين وقفها، واستُبدلت مؤسسات الرعاية وخدماتها بجمعية التنمية والحصص التموينية في المناسبات، إضافة إلى مدرستين ومستوصفين. وبالطبع، لا يمكن مقارنة ما كان لدى السنّة بما هو موجود اليوم. وإن كانت نظرية رغبة الحريري في تحسين التعليم الرسمي صحيحة، فلا يبدأ المرء بإغلاق التعليم شبه المجاني الجيّد مقابل عدم وجود حالة استنهاض للتعليم الرسمي».‏

ويتابع وريث الزعامة الذي يحتك دائماً بأبناء الطائفة، وخصوصاً الفقراء منهم، أنّ «الإجابة التي قدّمها رفيق الحريري عن الشعور العام لدى السنّة بفقدانهم حجمهم ودورهم في لبنان، كانت في إعلان مشروعه هو. ويتألّف مشروعه من شقّين: الأوّل هو إعادة بناء الوسط التجاري، وهو مشروع ضروري ومفروض بعد حالة الخراب في وسط بيروت. أمّا الجانب الآخر من مشروعه، فسياسيّ يتلخّص بزعامته هو، ولم يكن للطائفة السنيّة نصيب كبير فيه».‏

«الأنا والمال»، يقول معارض بيروتي لسياسة رفيق الحريري في وصفه للرجل. كلّ ما بناه، برأيه، كان يهدف إلى الزعامة المباشرة والأرباح التجارية. أمّا وريث الزعامة البيروتية فيقول إنّ المأخذ الرئيسي على رفيق الحريري هو «ربط كل شبكة الخدمات والمصالح بشخصه، وهو ما هدّد كيان الطائفة ككلّ». إلا أنّ المؤيّدين للحريريّة يرونها بصيغة أخرى: زعامة وطنية ومساعدات سخيّة أغدقت على المؤسسات الخيرية، وعطاءات كريمة للمواطنين المحتاجين بغضّ النظر عن انتماءاتهم.‏

دخل رفيق الحريري في مواجهة شرسة سياسياً واقتصادياً. تعرّض هو والفريق العامل لديه لاتهامات وملاحقات. وخاض انتخابات جنّد لها مئات الملايين من الدولارات، بحسب أخصامه والمحايدين. هاجم كل خصومه السياسيين. كسر شوكة كل من وقف في وجهه. طالب الحلفاء بإلغاء الفارق بين الآخرين: كل من ليس من لوائحه هو خصم يجب إسقاطه، وكل من ينتسب إلى اللائحة يجب أن يفوز، بغضّ النظر عن مشربه.‏

وحين زار أحد ضباط الاستخبارات السورية رفيق الحريري طالباً منه إفساح المجال أمام شخصيات أخرى عبر ترك شواغر في لائحته الانتخابية لعام 2000، خاطبه قائلاً: «آنت اللحظة التي سأسحقهم فيها، فلا تطلب لهم الرحمة». طالب الحريري جمهوره المجيّش طائفياً بإسقاط اللائحة الانتخابية كما هي عند الساعة السابعة صباحاً، واستغلّ حتّى اللحظة الأخيرة من الانتخابات الدعاية التي أُطلقت ضده عبر شاشات التلفزة. واستفاد من جو التحريض الطائفي الذي حاول البعض استثماره لضربه، فأصبح للمرّة الأولى زعيماً لطائفة تشبّهت ببقية الطوائف، ودخل في لعبة المناطق السنية الفقيرة التي تطالب بالثأر من الآخرين، كل الآخرين الذين حظوا بغنم السلطة في السنوات التاليات للحرب الأهلية.‏

نجح الحريري في الانتخابات النيابية، برفقة كلّ من والاه، محدثاً تحوّلاً في الخريطة السياسية. وللمرّة الأولى، صار السنّة يبحثون في العاصمة عن معنى الانتماء، بعدما كانوا يرونه خلف الحدود والجبال وفي الصحارى العربية، أو في عاصمة الأمبراطورية المنهارة، وفي أحلام الوحدة من المحيط إلى الخليج.‏

المصدر: صحيفة الاخبار اللبنانية‏

2007-02-22