ارشيف من : 2005-2008
الحكومة الساقطة تنتهك الدستور على كل الجبهات
مازن أحمد صفية(*)
في الماضي قال هيغل: "إن أرقى جماعة أرقاها حريةً".. بينما رأى جان جاك روسو "أن الشعب الحر هو الذي يطيع القوانين".. فأين نحن اليوم من هذه العناوين التي ما انفك ملتزمو 14 آذار او السياديون الجدد يتبنونها ويتغنون بها، حتى أصبح يُخيل اليك ان كل لبناني حر وسيد ومستقل هو حكماً في جماعة 14 آذار، أما من هم خارج إطار هذه الجماعة من اللبنانيين فهم حكماً خاضعون خائفون مسيَّرون، أو "دمى" بحسب التعبير "الديمقراطي واللاإلغائي".
وهكذا تستفحل الأزمة وتكتمل فصولها لتبلغ الذروة ومرحلة اللاعودة باستقالة وزراء الطائفة الشيعية، ومن ثم بعقد الجلسة الشهيرة (اللاميثاقية) للحكومة، التي أقرّت مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي بغياب رئيس الجمهورية عن الجلسة واعتراضه على عقدها وبغياب الوزراء المستقيلين.
وهنا لا بد من إبداء بعض الملاحظات القانونية لما حصل أو ما سيحصل ضمن هذا الإطار.
فقد ارتكبت الحكومة اللبنانية خطأ جسيماً لامس حد الخطيئة بعقدها جلسة 13/11/2006 دون الأخذ باعتراضات رئيس الجمهورية على عقدها، او في ظل غياب الوزراء الشيعة المستقيلين، ما يطرح تساؤلات حول قانونية إقرار مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي والمفاعيل المترتبة على ذلك في ما بعد، وتداعياتها على صعيد الأحكام التي يمكن ان تصدر عنها وطرائق تنفيذها.
في عدم ميثاقية جلسة الحكومة بتاريخ 13/11/2006:
ـ تنص الفقرة (ي) من مقدمة الدستور ان "لا شرعية لأي سلطة تناقض العيش المشترك".
ـ كما نصت المادة (95) من الدستور فقرة (أ) أنه "تمثل الطوائف بصورة عادلة لدى تشكيل الوزارة".
المبدأ الأول المقرر في دستور الطائف شاء واضعوه أن يؤكدوا أهميته وقدسيته، ومن أجل ذلك تم إيراده تحديداً في مقدمة الدستور التي استحدثت بعد تعديل الطائف. والمتعارف عليه قانوناً ان أحكام مقدمة الدستور تعلو بأهميتها وقدسيتها أهمية نصوص الدستور، وبالتالي أي مخالفة لهذا المبدأ تكون مخالفة لمبدأ دستوري أساسي، ويكون مصيرها البطلان.
ولا يمكن الحديث عن دستورية أو قانونية جلسة مجلس الوزراء بتاريخ 13/11/2006 في ظل استقالة الوزراء الشيعة، بزعم أن هذه الاستقالة قد رُفضت من قبل رئيس مجلس الوزراء، أو في ظل عدم صدور مرسوم يقضي بقبولها، لأن استقالة الوزراء تعطي مفاعيلها القانونية لدى صدورها عن الشخص المعني بها ولدى أخذ العلم بها دون تعليقها على أي شروط شكلية أخرى ينبغي اعتمادها.. فكما هي الحال لدى استقالة عضو المجلس البلدي، حيث اشترط قانون البلديات في قبولها موافقة المحافظ، وإذا رفضها هذا الأخير فينبغي على المستقيل نشر استقالته في الصحف المحلية لإعطائها مفاعيلها القانونية واعتبارها نافذة ونهائية تجاه الجميع. أما التذرع بنص المادة (53) من الدستور للقول إن الاستقالة تُعتبر ناجزة ونافذة لدى صدور مرسوم يصدره رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة بقبول هذه الاستقالة، فتذرع أيضاً مردود، لأن الأخذ بهذا المنطق يعني تقييد حرية الوزير من جهة، ومن جهة أخرى إمكانية شل عمل السلطات الدستورية، لا سيما مؤسسة مجلس الوزراء، خاصة اذا ما استقال ثلث أعضائها أو أكثر ولم تُقبل استقالاتهم لغايات سياسية من قبل رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة على السواء، من أجل التحايل على نصوص الدستور الذي يعتبر الحكومة مستقيلة اذا ما فقدت ثلث أعضائها.. فكيف تعقد جلسات مجلس الوزراء في مثل تلك الحالة اذا لم يصدر مرسوم بقبول الاستقالة؟
أما الحديث عن أن الحكومة تبقى متمتعة بشرعيتها الدستورية في ظل استقالة جميع وزراء طائفة معينة ما دامت تحوز الثقة النيابية، فأمر مردود أيضاً، لأن ما هو أساسي وجوهري لدى تأسيس وتشكيل الحكومة، أي التوازن الطائفي، وأكثر من ذلك مبدأ المثالثة ضمن المناصفة، يبقى أساسياً وجوهرياً حتى أثناء سير عمل الحكومة، لأن هذه المبادئ الدستورية والقانونية المقررة في الدستور التي تحكم عمل السلطات والمؤسسات الدستورية، هي ثابتة ودائمة وتعتبر الناظم الضامن لجوهر النظام السياسي في لبنان، القائم على التوازنات الدقيقة فيه، أو المعبر عنها في أميركا بقاعدة الحواجز والتوازنات ""Cheks and balances، كما أن أي ثقة نيابية ممنوحة للحكومة من قبل مجلس النواب تتعارض مع مبادئ ونصوص الدستور لا قيمة قانونية لها البتة في ظل مبدأ تفوق الدستور على غيره من القوانين، كما سيادته على جميع سلطات الدولة الدستورية، ومنها السلطة الاشتراعية (مجلس النواب).
في الالتفاف على صلاحيات رئيس الجمهورية:
تنص الفقرة (هـ) من مقدمة الدستور على أن النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.. كما تنص المادة (52) من الدستور على أن يتولى رئيس الجمهورية المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء.
ان عقد جلسة مجلس الوزراء برغم اعتراض رئيس الجمهورية على عقدها، واتخاذ القرار من قبل الحكومة بإقرار مسودة مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي قبل توقيع وإبرام وإحالة المعاهدة من قبل رئيس الجمهورية عليها، هو هرطقة دستورية، وهو عمل باطل بطلاناً مطلقاً وبمثابة غير الموجود ""Incxistcnt.
نشير إلى ان صلاحية رئيس الجمهورية في موضوع المعاهدات الدولية أُفرد لها فصل مستقل هو نص المادة (52) من الدستور، في حين أن بقية صلاحياته تم إيرادها مجتمعة في المادة (53) من الدستور، وهذا تأكيد من واضعي الدستور لأهمية صلاحية رئيس الجمهورية في ما خص عقد المعاهدات الدولية، وأن دوره بهذا الخصوص هو أساسي وجوهري ولا يمكن سلبه إياه تحت أي ذريعة.
ان المادة (52) من الدستور حددت المراحل التي تمر بها المعاهدة الدولية لتصبح نافذة، وهذه المراحل تتدرج ضمن آلية تسلسلية دقيقة. وخارج أطر هذه الآلية تعتبر المعاهدة غير نافذة ولا قيمة قانونية لها على الصعيد الداخلي للدولة.
ان هذه المراحل وفقاً للدستور هي المفاوضة والإبرام والتوقيع والإصدار والنشر، فالمفاوضة والإبرام هما أساسا من الاختصاص الحصري لرئيس الجمهورية، وفي السابق كان يمكن للملك في الممالك الغربية ان يجريها بشكل سري، ومن أجل ذلك سُميت "سر الملك". لكن في لبنان وبعد تعديل الدستور، أصبح رئيس الجمهورية يمارسها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، يمارسانها بذاتهما او عبر موفدين لهذا الغرض ومكلفين من قبلهما.
فإذا أبرم رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة المعاهدة، تحال عندئذ إلى الحكومة لتوقيعها، كما تحال فيما بعد الى المجلس النيابي أيضاً لإقرارها (نص المادة 52 لم يلزم بالإحالة). وإحالتها إلى المجلس النيابي يستلزم من رئيس مجلس النواب ان يدعو الى جلسة بهذا الخصوص، ولا يمكن إلزامه على ذلك إطلاقاً، عملاً بالصلاحيات المطلقة لرئيس المجلس النيابي المنصوص عنها في النظام الداخلي لمجلس النواب بما خص الدعوة الى اجتماع المجلس النيابي، وكما في تحديد جدول أعماله.. ثم تستلزم في ما بعد موافقة ثلثي أعضاء المجلس النيابي. وبعد هذه المراحل التي دونها عقبات أكيدة تحال مجدداً الى الرئيس للإصدار والنشر، وضمن هذه المراحل لا بد من تأكيد الثوابت القانونية التالية.
ان وضع مسودة مشروع المعاهدة بعد المفاوضات من قبل فريق العمل المسمى من قبل رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة لا يلزم رئيس الجمهورية بشيء، ويمكن له أن يطلب إعادة النظر بالمفاوضات، كما يمكن له إهمال المشروع برمته وعدم إبرامه والامتناع عن إحالته الى الحكومة، لأن الإبرام يبقى حقاً استنسابياً لرئيس الجمهورية يحق له القيام به او الامتناع عنه، دون ان تثار مسؤوليته او مسؤولية الدولة تجاه المجتمع الدولي بهذا الخصوص. وهذا الأمر جرى تأكيده في الفقه الدستوري المقارن:
ـ ان الحكومة لا يمكن لها ان تعقد جلسة لمناقشة مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي في ظل اعتراض رئيس الجمهورية على عقدها، لأن رئيس الجمهورية في مثل هذه الحالة له الحق بفرض جدول الأعمال بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ما دام موضوع الجلسة يتعلق بمعاهدة دولية، ويدخل بالتالي في صلب صلاحياته الدستورية، عملاً بالمادة (52) من الدستور. والمعلوم أن رئيس الجمهورية ملزم بالحفاظ على الدستور، وهذا ما يقسم عليه أي رئيس للجمهورية (القسم الدستوري).
ـ ان الحكومة لا يمكن لها ان تناقش أو تبت في مسودة مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي ما لم تعرض وتوقع وتُحَل اليها من قبل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، عملاً بالمادة (52) من الدستور.
وبتجاوز الإحالة وفقاً للآلية والتسلسل المعروض أعلاه، تكون الحكومة قد تعدت على صلاحية ليس لها أصلاً، وبالتالي حلت محل رئيس الجمهورية، ما يعني مخالفتها مبدأ فصل السلطات وتوازنها. وقرار الحكومة في هذا الإطار باطل بطلاناً مطلقاً للعيب في الشكل ولتجاوز حد السلطة، كما لمخالفته مبدأ فصل السلطات الذي قال فيه مونتسكيو إنه يشكل الضمانة الكبرى للحريات العامة والحقوق الفردية، وغايته هو الحؤول دون الجنوح والطغيان نتيجة تمركز السلطات بيد رجل أو هيئة واحدة.
ـ ان مرور المعاهدة الدولية بمختلف هذه المراحل يستلزم مرحلة أخيرة يقتضي اتباعها لجعل المعاهدات والاتفاقيات الدولية نافذة. وهذه المرحلة هي مرحلة إصدار المعاهدة من قبل رئيس الجمهورية ونشرها. وهي تخضع في غياب النص الصريح الى نص المادة (51) من الدستور (الإصدار) والمادة (56) منه (النشر)، ما يعني إلزامية العودة إلى رئيس الجمهورية لإصدار ونشر المعاهدة، فهل ستجتهد الحكومة أيضاً وتتجاوز إشكالية إصدار ونشر المعاهدة من قبل الرئيس.
ـ ان وضع مشروع المحكمة ذات الطابع الدولي موضع التنفيذ دونه عقبات دستورية وقانونية في لبنان، عدا تداعياته المحتملة على صعيد العلاقات بين مختلف القوى السياسية، فهل ستستفيق المجموعة الحاكمة من غيبوبتها وتقتنع بوجوب استدراج الإجماع الوطني حول المحكمة ذات الطابع الدولي، واعتبار محاكمة المجرمين مطلباً وطنياً؟!
ان لبنان دخل اليوم فعلاً في المجهول، والجميع مدعوّون لوقفة ضمير تتلقف الفرص المتاحة من أجل تجنيبه الفوضى الخلاقة التي أرادها له أصدقاؤه دعاة الشرق الأوسط الجديد (المحافظون الجدد).
(*) محام بالاستئناف
الانتقاد/ العدد 1193 ـ 15/12/2006
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018