ارشيف من : 2005-2008
حزب العمال التركي والخيارات المرة أمام أكراد العراق
خيار القوة العسكرية المسلحة.. فتلك الأزمة تتحرك باتجاهات ومسارات عديدة لأنها ليست وليدة اليوم او الامس، بل عمرها يناهز خمسة وعشرين عاما.
هذا يمكن ان يكون التوصيف الأقرب لأزمة حزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، او الازمة بين بغداد وأنقرة التي تسبب بها ذلك الحزب، او بتعبير أدق الازمة بين اكراد العراق والحكومة التركية.
وبغداد التي بدت انها تمثل المسرح الرئيسي للحركة الدبلوماسية والسياسية لاحتواء الازمة بعدما رفضت أنقرة عروضا من اكراد العراق لحوار مباشر، وأكدت انها تعترف فقط بالحكومة المركزية في بغداد، بدت الاخيرة اقل قلقا واضطرابا من أربيل عاصمة اقليم كردستان التي ألقت الازمة بظلالها على محافلها وأوساطها السياسية وعلى الشارع الذي راحت القيادات الكردية تعمل على تعبئته ضد خيار العمل العسكري الذي تلوّح به أنقرة، وباتت الطريق اليه سالكة بدرجة اكبر بعد منح البرلمان التركي بأغلبية مطلقة الضوء الأخضر للحكومة بشن عمليات عسكرية في الأراضي العراقية ضد حزب العمال لمدة عام كامل من تاريخ صدور القرار.
وتعثر مجلس النواب العراقي (البرلمان) في إصدار قرار سريع حيال التهديدات التركية، ومن ثم إصدار مشروع بيان من ست فقرات تتضمن رفض التهديدات التركية. ومطالبة الحكومة العراقية بإنهاء وجود حزب العمال على الأراضي العراقية عكست ردود فعل ومواقف متضاربة نوعا ما، أبرزها القدر الكبير من التعقيد لأزمة حزب العمال وصعوبة ـ إن لم يكن استحالة ـ حلها ومعالجتها خلال وقت قصير، وعبر أي من الوسائل المطروحة على الطاولة.
ويبدو ان الساسة العراقيين، ومن ضمنهم الاكراد، يدركون صعوبة حل الازمة، بل وأكثر من ذلك صعوبة احتوائها لأسباب عديدة، من بينها ان حزب العمال الكردستاني التركي يتمركز منذ اكثر من عشرين عاما، أي منذ تأسيسه تقريبا في عام 1984، داخل الاراضي العراقية، وتحديدا في منطقة جبال قنديل ذات التضاريس الجغرافية المعقدة، التي تقع ضمن المثلث الحدودي العراقي التركي الايراني. وهذه المنطقة يصعب وصول اي قوات عسكرية اليها مهما كانت قدراتها التسليحية والعددية واللوجستية وتجربتها القتالية، ناهيك عن ان وصولها يمكن ان يجعلها صيدا سهلا لمقاتلي حزب العمال المتمرسين بحرب العصابات في المناطق الجبلية.
والقضية الاخرى ان حزب العمال يمتلك قواعد شعبية لا بأس بها مؤيدة له في كردستان العراق، وله نشاط سياسي وإعلامي وغير ذلك هناك، الى جانب انه يمتلك معسكرات متكاملة في قضاء مخمور الواقع ضمن نطاق اقليم كردستان، وهو يخضع لحماية الاكراد والقوات الاميركية بعد سقوط نظام صدام قبل أربعة أعوام ونصف العام.
إلى جانب ذلك كله فإن للحزب علاقات وتحالفات واتفاقيات مع احزاب وقوى كردية، خصوصا الرئيسية والفاعلة منها، وما زالت تلك العلاقات والتحالفات والاتفاقيات ذات اثر وفائدة لكلا الطرفين، وبالتالي فإنه من الصعب على الاكراد العراقيين ان يخضعوا للضغوط التركية ويتبنوا مواقف مضادة لحزب العمال، من شأنها ان تجعله في خانة أعدائهم، وهو ما لا يريدونه لا من منطلق ان اكراد تركيا هم ابناء جلدتهم، وإنما لإدراكهم وتقديرهم لقدرة حزب العمال على إغراق شمال العراق في فوضى كبيرة قد تعيد الأكراد الى الوراء وتبدد المكاسب والانجازات السياسية المهمة التي حققوها خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية.
ومن هنا يمكن ان نفهم سر موقف جلال الطالباني ومسعود البارزاني بعدم اعتبار حزب العمال منظمة ارهابية وتوصيفهم له بمنظمة سياسية، وإعلانهم عدم استعدادهم لتسليم أي من قيادات وكوادر ذلك الحزب الى أنقرة. وكان الطالباني واضحا حينما قال: "لن نسلم لأنقرة حتى ولو قطة كردية"! بيد انه عاد ليرسم صورة غامضة حينما وصف من بغداد حزب العمال بأنه منظمة ارهابية، ربما كنوع من المجاملة او لامتصاص غضب ساسة أنقرة وكبار قادتها العسكريين، خصوصا في ظل وجود وزير الخارجية التركية علي باباجان في بغداد لبحث سبل حل الازمة مع الساسة العراقيين.
ويدور في بعض الاوساط والمحافل السياسية في العاصمة العراقية بغداد وبعيدا عن وسائل الاعلام، حديث متعدد الابعاد والجوانب يحتكم الى امور واقعية، منها أن هناك اتفاقيات مع النظام السابق ولم تجر اعادة النظر فيها او تعديلها بعد سقوطه تتيح للقوات التركية الدخول بعمق عشرين كيلومترا داخل الاراضي العراقية برا، وبعمق اربعين كيلومترا جوا. وتشير تقارير نقلا عن مسؤول في حكومة اقليم كردستان المحلية الى ان هناك اربع قواعد عسكرية تركية في كردستان العراق منذ عام 1997، حيث كانت القوات التركية في تلك الفترة تقدم دعمها لقوات الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرزاني ضد مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتزعمه جلال الطالباني، وأن الوحدات العسكرية التركية تتمركز في تلك القواعد شرق مدينة زاخو المجاورة للحدود مع تركيا على بعد نحو ثلاثين كيلومترا في عمق الأراضي العراقية، علما ان تركيا كانت قد اجتاحت شمال العراق خمسا وعشرين مرة منذ مطلع الثمانينيات، أي بمعدل اجتياح واحد في كل عام.
هذه الوقائع مضافا اليها المصالح والحسابات الاقتصادية والسياسية المشتركة بين بغداد وأنقرة، لا تدفع كثيرا الى التحمس لتصعيد الموقف ضد أنقرة، في ذات الوقت فإن سياسيين في بغداد يؤكدون ان الوضع الحرج الذي يشعر به الاكراد، وتحديدا في المناطق الخاضعة لنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني، وإحساسهم بأن أنقرة جادة هذه المرة في اتخاذ اجراءات حازمة جدا حيال حزب العمال والاطراف الكردية المساندة له، جعلهم يلوذون ببغداد.. علما انهم يرفضون حتى الآن رفع العلم العراقي على أي مبنى او في أي شارع بإقليم كردستان، وهذا ما اشار اليه سامي العسكري مستشار رئيس الوزراء العراقي وأثار في حينه حفيظة الاكراد.
شيء واحد فقط يمكن ان يجعل أنقرة تعيد حساباتها وتصرف النظر عن الخيار العسكري، هو اما ان يقوم الاكراد العراقيون بطرد قيادات حزب العمال بعيدا عن الاقليم ليتسنى للمخابرات التركية ملاحقتهم كما حصل مع زعيم الحزب السابق عبد الله اوجلان في عام 1999، او ان يقوم الاكراد بتسليمهم مباشرة لأنقرة.
ومثل تلك الخيارات تبدو مُرة بالنسبة لأكراد العراق، مثلما خيارات التصعيد والعمل العسكري مُرة هي الأخرى.
الانتقاد/ العدد 1238 ـ 26 تشرين الاول/ اكتوبر2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018