ارشيف من : 2005-2008

من سجن اليرزة إلى ثكنة معراب وما بينهما : جعجع عاد ليقود شرذمة الشارع المسيحي وصولاً إلى كرسي الرئاسة

من سجن اليرزة إلى ثكنة معراب وما بينهما : جعجع عاد ليقود شرذمة الشارع المسيحي وصولاً إلى كرسي الرئاسة

الرسمية، بعد أن صوّت مجلس النواب اللبناني على القرار ووقّعه رئيس المجلس نبيه بري وأحاله الى مرسوم وقّعه كل من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ثم رئيس الجمهورية العماد إميل لحود.‏

وللتذكير فقط، فقد كان المجلس العدلي أصدر حكماً بإعدام جعجع بناءً على نتائج التحقيقات التي أكّدت إدانته بارتكاب جريمة قتل رئيس الحكومة الشهيد رشيد كرامي، وخفّض العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. ولا نسقط من سجله الاجرامي اغتيال رئيس حزب الأحرار داني شمعون مع من كان موجوداً من عائلته، واغتيال طوني فرنجية مع من كان موجوداً من عائلته، ولا يبعد أيضاً مشاركته في ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، التي أعقبت عملية اغتيال بشير الجميل.‏

تم تنفيذ القرار وخرج جعجع من زنزانته في وزارة الدفاع، وأقلّته سيارة مباشرة إلى المطار، وسافر إلى باريس بغية إجراء فحوصات طبية كما أُعلن. وترافق هذا العفو مع عفو آخر طال موقوفي أحداث الضنية ومجدل عنجر الذين كانوا مدانين بالانتماء إلى "تنظيم أصولي"، والقيام "بأعمال تضر بالسلم الأهلي".‏

يومذاك علّق أحد ظرفاء السياسة اللبنانية بالقول: "جعجع لم يتغيّر، لقد بات الآن نحيلاً ولكن كل ما كان يختزنه بداخله ما زال موجوداً، لا بل من المرجّح أن يكون قد تضاعف وتضخّم.. لقد وفّر له السجن الوقت لكي يعيد صوغ طموحاته.. الآن سوف نبدأ العد العكسي للعودة إلى عهد جعجع..".‏

كانت البلاد يومذاك مقبلة على ما قيل عنها أجواء "مصالحة سياسية" عامة، وتحضيرات لإجراء انتخابات نيابية أخذت زخمها من حرارة دم الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 شباط/ فبراير 2005، وكانت التركيبة الثلاثية التي نشأت يومها تحت شعار "المصالحة" واضحة للعيان، وجمعت بين جعجع وكل من سعد الحريري الذي حمل الإرث السياسي الكبير لأبيه، وعدو الأمس القريب اللدود وليد جنبلاط، الذي لم يكن - وفق قوله - ليساوم على دم الشهيد كرامي.‏

ومنذ عودته إلى بيروت بعد رحلة استجمام قصيرة، بدأ جعجع يعاود تموضعه الداخلي، ويستعيد خطاباته المذهبية - التقسيمية التي لم ينسها اللبنانيون، وبدأ بالعمل على تطبيق حلمه القديم – الجديد لتزعّم الساحة المسيحية، وكان لا بد لتحقيق ذلك من إقصاء العماد ميشال عون غريمه الماروني العنيد، الذي أطلق عليه جنبلاط لقب "تسونامي". وكانت السكة الأميركية بين عوكر والأرز، حيث أقام جعجع بعد عودته إلى لبنان، سالكة وبقوة، في وقت كان لافتاً تواتر الوفود والشخصيات المهنئة لجعجع بنيله "الحرية".. ولكن ما اختبأ خلف التهنئة إيحاء وصل لهؤلاء يقول: "هذا هو رئيس الجمهورية اللبنانية المقبل.. فسارعوا إلى حجز أماكنكم عنده".‏

لم يستطع جعجع كبت مواقفه المبيّتة طويلاً، خصوصاً بعد إعلان وثيقة التفاهم التي وقّعها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون، في كنيسة مار مخايل. ولعل اختيار الكنيسة مكاناً لتوقيع الوثيقة جاء رسالة بالغة الدلائل على عمق المفهوم الوطني الجامع للطوائف، وتجاوز الحدود المذهبية، والتأكيد على إمكانية تجاوز الحساسيات السياسية المختلفة، وهو ما لم يرُقْ جعجع وحليفه المستجد جنبلاط، اللذين عكسا مواقفهما بالهجوم على الوثيقة، والتقليل من أهميتها، بل اندفع جعجع وجوقته من "الجزّارين" القدامى إلى محاولة التشويش على عقول المسيحيين بادّعاء أن ما ورد في الوثيقة غير واقعي، باعتبار أن ليس هناك ما يجمع بين حزب عقائدي وتيار علماني.‏

برز الدور، الممنهج أميركياً والمدار من قبل "المندوب السامي" جيفري فيلتمان، الذي لعبه قائد ثكنة معراب في مواقفه التي كان يبديها في جلسات مؤتمر الحوار الوطني، كما تجلّى في الضغوط التي كان يمارسها وحليفه جنبلاط على أقطاب قوى 14 شباط/ فبراير، واللاءات التي كان يعلنها، في أي لحظة كان يشعر فيها بإرهاصات حل ما أو تسوية متأتية عن مبادرة، عربية كانت أم غير عربية.‏

وجاءت حرب تموز/ يوليو عام 2006 لتكشف الخيار الذي اتبعه جعجع، سواء عبر مواقفه أم عبر وسائل الاعلام التي تنطق باسم "القوات اللبنانية" وتعكس مواقف مسؤوليها السياسيين، وفي كل ذلك كان جعجع يتبع سياسة التلطي وراء مواقف حكومة فؤاد السنيورة اللاشرعية، لدرجة أن جعجع نصّب نفسه محامي الدفاع الأول عن هذه الحكومة، ليس حباً بالسنيورة أو إعجاباً به وبمواقفه، بل من منطلق الالتزام بالموقف الأميركي الذي اعتبر هذه الحكومة خطاً أحمر ممنوع تجاوزه حتى على.. سعد الحريري نفسه.‏

أطلق الرئيس نبيه بري مبادرته، فكان جعجع وجنبلاط أول من رماها بسهم، وأطلقا عليها قنابل متفجرة من العيار الثقيل، لدرجة أنهما اقتربا من القول إنهما غير ملزمين بما يتم التوصل إليه من نتائج، ولعل ذريعة جعجع كانت أقرب إلى واقع الشارع الذي يتزعمه، وحاول تسويقه لدى بكركي، وخصوصاً أنه عمل على حصر المشكلة بموقع رئاسة الجمهورية، في حين أن المعارضة كانت، منذ أن بدأت جلسات الحوار، تؤكد أن المشكلة في الحكومة وليس في رئاسة الجمهورية. وانطلق جعجع ليسوّق منطقاً يقول بأنه "من غير المقبول أن يقرر الشيعي والسني ما هو مختص بالماروني، فيكفي أن غالبية النواب المسيحيين يصلون إلى الندوة البرلمانية بأصوات المسلمين، فكيف يتم تقرير مصير الرئاسة "المارونية" من غير الموارنة أنفسهم؟!! وفي هذا ما فيه من تدليس وتحوير، وسعي لقلب محور الاهتمام نحو كرسي طالما حلم به جعجع، ليكون وريث سلفه بشير الجميل الذي لم ينل فرصة الجلوس عليه.‏

طالما ردد جعجع، وما زال، على لسانه وعلى ألسنة ببغاواته النجباء، بأن لا أحد غيره هو، له صلاحية تسمية مرشحي الرئاسة من صفوف قوى 14 شباط/ فبراير، وهو لا يجد غضاضة في القول إنه عرّاب لقاء معراب الذي تمخّض عن تسمية النائب بطرس حرب والنائب السابق نسيب لحود مرشحين رئاسيين، مع ميل واضح لتفضيل الثاني على الأول، وخصوصاً أنه يحوز تأييد قطبين أساسيين هما المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية.‏

لقد أجاد جعجع في إثارة الغبار، على مستوى الشارع المسيحي، في شأن الاستحقاق الرئاسي، وبدا في طلاته الاعلامية المنسّقة، وكأنه يتلو أمر اليوم. وما على الآخرين من تجمع قوى 14 شباط إلا أن يحذوا حذوه، وخصوصاً أن مواقفه كانت تلقى صدىً لدى معسكر تخريب آخر، يتقاطع مع جعجع في الخلفيات والأهداف والرؤية.. وإطاعة الآمر الأميركي. ولا صعوبة أبداً في التقاط موجات الأثير ما بين معراب والمختارة، لنتلمس "النوتة" التي يميل معها كورس المواقف والتصريحات.‏

ولم يكن هذا المنهج هو الوحيد الذي اعتمده جعجع، وبات يزايد على حليفه اللدود جنبلاط في "تبشير" اللبنانيين بموجة تفجيرات جديدة، وبات يتناوب النعيق مع غراب المختارة في تأكيد حصول استهدافات معينة، ولولا "العيب والحياء" كما يقول المثل، لكانا حدّدا هوية الضحية المقبلة، فقد كان الرجلان صادقين تماماً في ما "بشّرا" به اللبنانيين، لا بل حدّدا مسار الاستفادة من هذه الجرائم، بأن كانا يعلنان الخطوة المقبلة، منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى اغتيال النائب انطوان غانم، مع ما رافق كل جريمة من إجراء بدءاً من المحكمة الدولية وصولاً إلى محاولة استصدار قرار من مجلس الأمن، وتحديد آليات إجراء انتخابات الرئاسة بالنصف زائد واحد، ولا سيما أن مجلس الأمن قد حلّ عند هؤلاء مكان المؤسسات الدستورية اللبنانية.‏

ولم يعد خافياً أن جعجع، كما جنبلاط، هو المتضرر الأول من إقرار أي مشروع حل، لأنه سيخرج "من المولد بلا حمص"، لأن أي تسوية، لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار حجم التمثيل السياسي والشعبي لكل طرف من الأطراف الأساسية على الساحة اللبنانية، وبالتالي فهما لن يحصلا حتى على "أذن الجمل"، في حين أنهما يريدان "الجمل بما حمل"، معتمدين في ذلك على رعاية مباشرة من الادارة الأميركية، ومن غيرها من الأطراف المستفيدة والدائرة في فلكها، لم تتوافر لأي شخصية أو جهة من قبل في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يدلّل على أهمية العنصر اللبناني في الأجندة الأميركية على مستوى المنطقة.‏

ويكفي أن نتابع مواقف جعجع الراهنة حيال مبادرة بكركي والموقف من التيار الوطني الحر من جهة، أو حيال الرئيس نبيه بري وحزب الله والمعارضة من جهة ثانية، ومقارنة هذه المواقف مع ما تعلنه إدارة بوش وكذلك المسؤولون الإسرائيليون، فندرك عندها شكل الدور المرسوم، وخط سير المرحلة المقبلة. فهو لا يأسف إن فشلت مبادرة بكركي لأن ذلك لن يكون "آخر الدنيا"، وسيحارب لمنع وصول أي مرشح رئاسي لا ينتمي إلى قوى 14 شباط/ فبراير، ويؤكد أن الانتخاب سيكون بالنصف زائد واحد وفي أي مكان تسمح به الظروف. كما صنّف الرئيس بري ضمن خانة الأعداء وخيّب أمله على مستوى أدائه السياسي، في حين أن المعركة الأساسية لديه هي مع حزب الله ومن ورائه سوريا وإيران.‏

نعم لقد عاد عهد جعجع، ولكنه ليس وحده اليوم، فقد انضم إليه واحد من الذين ضربوا الرقم القياسي في التلوّن والتقلّب.. ومعه عاد عهد التفجيرات والعبوات الناسفة وارتكاب الجرائم المتنقلة، كما عاد أيضاً جوني عبدو ليطل برأسه ويدلي بدلوه في بئر السياسة اللبنانية. وفي وقت حذّر جعجع من أن عدم انتخاب بطرس حرب أو نسيب لحود سيؤدي إلى مجيء من هو "أقطع" منهما، لم يخجل نائبه جورج عدوان من القول إن جوني عبدو هو شخصية لا تخلُ من مواصفات تؤهله ليكون رئيساً لجمهورية لبنان.‏

محمد الحسيني‏

الانتقاد/ العدد 1238 ـ 26 تشرين الاول/ اكتوبر2007‏

2007-10-26