ارشيف من : 2005-2008
طبيب القلوب بذكراه
يخلو من ثبات..
ستة وستون عاماً قضيتها في سوح النضال، والعزم لم يفارقك يوماً، ولا غزاك وهن.
كنت الطالب الثوري، والطبيب المعترض، و"الحاج" المتدين العامل، وآخر حبكة صوف في عباءة عمرك كانت؛ رئيساً لبلدية عاصمة المقاومة والتحرير بنت جبيل.
بنت جبيل المدينة التي أحببت، بنت جبيل؛ مفجوعة الآن لرحيلك أيها الطبيب المغادر بسكينة الزهاد.
بنت جبيل التي عشقت، بالأمس كانت تتوسد إيقاعات صوتك الشجي العذب.
كانت تتوسد صوتك وتغفو بين مُدن الكبرياء، وها هي اليوم تصحو لتشيّع جنازتك المهيبة، وقلبها ينزف دماً وعيونها تسيل دموعاً..
لكن...
عزاؤها أن تربتها ستحضنك للأبد ابناً باراً، فنِعم الأم هي ونِعم الابن أنت.
قبل خمسة من الشهور وقفتَ خطيباً في افتتاح معرض الأمير السادس للكتاب في بنت جبيل، لتقول:
إنَّ هذه المدينة "بنت جبيل" كما صنعت الرجال الرجال.. كما أنجبت القادة القادة.. الحاج خالد بزي والسيد محمد أبو طعام والحاج راني بزي وغيرهم الكثير الكثير، هذه المدينة ما برحت تصنع الفكر وتنظم الشعر وتنثر الأدب وتعزف الحرية التي لم تتخلَّ بنت جبيل يوما عنها.
وأضفتَ: إنَّ بنت جبيل التي أذلت الصهاينة، ستبقى أم الكتاب الجنوبي بامتياز، ومنارة باسقة وفيّة للثقافة كما للمقاومة ولو كره المجرمون.
ماذا أقول فيك أيها الطبيب، الراحل كما العشاق..؟
وهل لبضع كلمات أن تترجم عمرك الحافل بالرفض والكبرياء..؟
ومن أين أذكرك، وكيف..؟
هل أذكرك من عدوان تموز 2006 وأنت الصامد بين أهلك وناسك؟
أم أذكرك وأنت في بلدة تبنين تستقبل الذين هُجِّروا قسراً عن بنت جبيل قبل سنة ونيف، ترعى شؤونهم وتبلسم جراحاتهم وتكفكف دموعهم..؟
أم أذكرك في بيروت، وأنت تُشكل اللجان لرعاية من نزحوا من أبناء مدينتك الصامدة برغم كل الجراحات والمؤامرات من الأقربين والأبعدين..؟
أم أذكرك وأنت من أوائل العائدين لبنت جبيل بعد وقف العمليات الحربية في 14/8/2006، تشارك ناسك وأهلك رفع الأنقاض ومسؤوليات العودة..؟
أم أذكرك وأنت تسهر الليل وتحيي النهار برغم مرضك العضال لتأمين مساكن الناس وتأمين حاجاتهم برغم كل الدمار، وتنسق جهود الإغاثة، وتستقبل الوفود العربية والأجنبية بكل رحابة صدر وسعة أفق..؟
أم أذكرك وأنت تصرخ وتجاهد وتجاهر في وسائل الإعلام اللبنانية والأجنبية فاضحاً جرائم الصهاينة، ومطالباً بحقوق بنت جبيل كمدافع عنيد..؟
آخر مرة التقينا فيها أيها الطبيب الجميل؛ كنا نستقبل الفنانة جوليا بطرس،
يومها قلت لي جواباً لسؤالي عن صحتك، قلت:
ليس المهم الصحة يا محمد!
المهم أن نؤدي الأمانة في خدمة الناس، والباقي على الله سبحانه.
نعم أيها الطبيب المغادر بأمانة وطمأنينة، هذا هو المهم، صدقتَ ووفيت.
ولا أدري أيها الطبيب الراحل الباقي..
هل من الممكن أن تمحو هموم الحياة كلّ الذّكريات؟
أراها قد تفعل ذلك.. لكنّ المستحيل عينه أن تنسيني يوماً:
أنَّ الدكتور علي محمود بزي سيبقى طبيباً للقلوب بذكراه.
الانتقاد/ العدد 1238 ـ 26 تشرين الاول/ اكتوبر2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018