ارشيف من : 2005-2008
للتفاؤل مبرراته العقلانية والموضوعية ما لم يقرر الأميركي المغامرة بكل شيء : الاستحقاق الرئاسي يدخل المرحلة الساخنة
ما فتئ الرئيس بري يؤكدها؟
لا يختلف اثنان، على أن التحركات والاتصالات الداخلية ـ الداخلية، والداخلية ـ الخارجية، والخارجية الداخلية، ناشطة وبكثافة على خط الاستحقاق الرئاسي.
ولا يختلف اثنان أيضاً، في أن ما يصدر من مواقف وتسريبات، وما يجري تناوله من معلومات، يضعنا أمام خلطة من التفاؤل والتشاؤم معاً، وإن كانت نسبة هذا العامل على ذاك تتفاوت من وقت إلى آخر، الأمر الذي قد يعكس في الحقيقة صعوبات التفاوض الدائر، ومدى تشابك الخيوط التي يفترض أن تنسج في النهاية قماشة الاستحقاق الرئاسي وعباءته السياسية، التي يفترض أن تتجاوز موقع الرئاسة إلى ما بعده، أي الحكومة الجديدة.
وفي مطلق الأحوال، إن حل حزورة أو أحجية التفاؤل والتشاؤم الخاصة بالاستحقاق الرئاسي، ليست بالصعوبة الكبيرة التي تجعل إمكان حلها مستحيلاً، بل على العكس فإن الصعوبة هنا هي أقرب إلى الغموض الكثيف منها إلى أمرٍ آخر، هذا الغموض الذي يعود بالدرجة الأولى إلى عدم الفصل والتمييز على نحو دقيق بين ما هو تكتيك، وما هو استراتيجي في الصراع الدائر حول الاستحقاق الرئاسي.
إن جلاء هذا الغموض يحتاج إلى إعادة تحديد موقع الاستحقاق الرئاسي بدقة في خريطة الصراع الدائر في لبنان والمنطقة، والى إعادة قراءة موازين القوى بدقة أيضاً، وتحديد الخيارات المتاحة والفضلى لكل طرف.
من نافل القول، ان الصراع على الاستحقاق الرئاسي في لبنان اليوم تتداخل عنده الأبعاد والاعتبارات الدولية والاقليمية والمحلية.
فلبنان هو اليوم أحد خطوط نشر والدفاع في نفس الوقت عن المشروع الأميركي في المنطقة، والقيمة الاستراتيجية للبنان في حسابات ادارة بوش تتجاوز مساحته الجغرافية الصغيرة إلى الوظيفة الاستراتيجية له، حيث بات يشكل أحد خطوط الصدام والمواجهة والتماس بين محور المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي مضافاً اليه عرب التسوية، ومحور المقاومة والممانعة في المنطقة، والاستحقاق الرئاسي اليوم هو أحد مواقع المواجهة هذه، والحقيقة أنه بقدر ما هو مطلوب لنفسه هو مطلوب لغيره، أي للحكومة المقبلة، حيث أنه تحت عباءة الاستحقاق الرئاسي لا بد من أن تتم المواجهة حول موقع سلطوي آخر غاية الأهمية ألا وهو رئاسة الحكومة، والحكومة المقبلة وبرنامجها السياسي الذي لا بد من أن يعكسه بيانها الذي ستتقدم به إلى مجلس النواب.
من هنا، فالقول الذي يعتبر أن موقع رئاسة الجمهورية لم يعد هو الأساس، بل الحكومة هو قول في محله نسبياً، ويمكن القول هنا، ان شكل وتركيبة الحكومة المقبلة، وبرنامجها السياسي، هما من سيحددان أكثر اسم الرئيس المقبل، لأنه حينئذٍ لا بد من رئيس ينسجم مع هذه الحكومة ومع برنامجها السياسي. ولا شك، أن نقطة أساسية لا بد من أن تبحث، وتتناول الضمانات الفعلية لبقاء التفاهم السياسي قائماً وعدم الانقلاب عليه مجدداً.
وهنا، يمكن العودة إلى مجمل مواقف كل من فريقي الموالاة والمعارضة لنستطيع وضع جدول بياني بعناوين الخلافات السياسية، وبالتالي محاور الخلاف حول البرنامج السياسي للمرحلة المقبلة، فواشنطن وأدواتها في لبنان يرفعون شعار المطالبة بتطبيق القرارات الدولية، من القرار 1559 إلى القرار 1701، ويلحقون بها البنود السبعة للسنيورة، كما يرفعون شعار المطالبة بحماية المحكمة ذات الطابع الدولي، ومستلزمات باريس 3، وبين هذه وتلك، يريدون توسيع عمل قوات الطوارئ لتشمل الحدود اللبنانية ـ السورية، واعادة النظر في المؤسسات العسكرية والأمنية بدءاً من عقيدتها العسكرية وصولاً إلى تركيبتها وعملها الميداني.
أما المعارضة فتعتبر أن القرارات الدولية يجب إخضاعها للمصلحة الوطنية اللبنانية العليا، وترفض المس بسلاح المقاومة ودورها الا من ضمن رؤية دفاعية وطنية تحافظ على هذا الموقع وذاك الدور، كما ترفض المس بسيادة لبنان عبر المزيد من التدويل، وعدم اعتماد الخصخصة المافيوية بذريعة الأوضاع الاقتصادية. ويكشف لنا تباين الطروحات المكان الفعلي للخلافات، وموضع التجاذب المحلي والاقليمي والدولي، هذا من دون أن نتجاهل الكباش المفترض حول رئاسة الحكومة المقبلة وتركيبتها وتوازناتها، والتي لا تقل صعوبة وأهمية.
وبالنظر إلى مواقف فريق الموالاة يظهر بوضوح أن أمنيته هي في الإمساك بموقع رئاسة الجمهورية كطريق للإمساك بالحكومة وتمرير البرنامج السياسي الأميركي للبنان، خصوصاً بعد فشل تمريره في حرب تموز، وفشل هذه الحرب. ومشكلة هذا الفريق وكل من يقف وراءه عربياً واقليمياً ودولياً أن امكانياته وتوازنات القوة في لبنان والمنطقة لا تسمح له بترجمة تمنياته إلى واقع عملي، فحليفه الأميركي، وهو الحليف الأساس والأكبر، يتخبط في المنطقة، وحليفه الموضوعي الكيان الاسرائيلي ليس بحالٍ أفضل، وحلفاؤه العرب ليسوا في وضع من يقرر، ولكل منهم حساباته ومخاوفه الخاصة، وأكثر من ذلك فإن المنطقة تبدو مقبلة على حراك جيو استراتيجي جديد، وعلى تطورات جديدة، كان عنوانها الأبرز زيارة الرئيس الروسي بوتين إلى طهران، وزيارة الرئيس السوري إلى تركيا، وتطور الأوضاع على الجبهة التركية ـ الكردية بكل أبعادها العراقية، إضافة إلى الرهان الفاشل سلفاً على إمكان نجاح مؤتمر الخريف للتسوية، وفي الوقت الذي بدأت تلوح في الأفق احتمالات معالجة للملف النووي ـ الإيراني، وفي مؤشر اقتصادي لا يقل أهمية يأتي أيضاً الارتفاع الكبير في سعر برميل النفط، الذي من شأن أي تصعيد في المنطقة أن يدفعه كالسهم إلى مزيد من الارتفاع، الأمر الذي سيكون له مضاعفاته السلبية الكبيرة على مجمل أوضاع الاقتصاد العالمي. كل هذه الاعتبارات ولدت ما يعرف بالخوف والقلق الجدي والحقيقي من احتمال دفع لبنان إلى الفوضى والانقسام، الذي من شأنه، وفي ظل الترابط الاستراتيجي اليوم بين الوضع في لبنان ومجمل أوضاع المنطقة، أن يهدد كل نقاط الارتكاز للمشروع الأميركي في لبنان وفي المنطقة أيضاً من خلال انتقال تأثيرات ما سيحدث في لبنان إلى مناطق أخرى، مهيئة بطبيعتها الهشة للتفاعل معها.
إن شعور واشنطن وحلفائها الدوليين والاقليميين وأدواتها الداخلية باحتمال أن يؤدي عدم التوافق إلى خسارة كل شيء، هو الذي يقف بالفعل وراء منسوب التفاؤل باحتمال حدوث اتفاق اللحظة الأخيرة حول اسم الرئيس، والذي، بالتأكيد، سيشمل الاتفاق على الحكومة المقبلة اسماً وتركيبة وتوازناً وبياناً وزارياً، في هذا السياق، فإن كل صراخ صقور فريق السلطة ليس أكثر من تهويل ومناورة في إطار تحسين الشروط، وعلى طريقة ليس الرقص على حافة الهاوية، وانما الاندفاع إلى الهاوية، على أمل أن يدفع الآخرين إلى الأخذ بيدهم حتى لا ينهار كل شيء، وهو أخذ المطلوب ودفع أثمان سياسية مقابلة. إلا أن حسابات هؤلاء خائبة كمواقفهم، لأن لا أحد مستعداً لدفع فواتير استراتيجية، ما يعني أن هؤلاء يريدون أثمانا، أو لا يبقى لهم من أثمان إلا بما يتناسب وأحجامهم السياسية.
هذا ما يبدو عقلانياً وموضوعياً، إلا إذا قرر الأميركي وأدواته أن يلعب في المنطقة لعبة الروليت الروسية، وعلى طريقة إما كل شيء أو لا شيء، ومن هنا مدعاة ابقاء الحذر قائماً، والانفتاح على كل السيناريوهات الأخرى المتداولة، والتحضر لها، وأخذها بالحسبان.
الانتقاد/ العدد 1238 ـ 26 تشرين الاول/اكتوبر2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018