ارشيف من : 2005-2008
بين مبادرة بكركي وتمنيات ودعوات البطريرك صفير : القرار المسيحي في الاستحقاق الرئاسي رهن الفيتو الأميركي
هل بقّت بكركي البحصة؟ أم أن الكثير من بحص الطبخة المارونية لا يزال عالقاً في حلق البطريرك صفير، دون أن يصل إلى مرحلة تسمية الأشياء بأسمائها؟

الاحتمالان صحيحان، وفي كلا الحالتين لا يزال الرجل محافظاً على توازنه من مغبة السقوط، داخل طائفته من جهة، وداخل فسيفساء الطوائف في لبنان من جهة ثانية، ولعل التجربة، بتفاصيلها وصورها السوداء، تعود بعمرها إلى منتصف الثمانينات، حين انقسم المسيحيون وتقاتلوا في ما بينهم، وكذلك في مطلع التسعينات حين قارب الموارنة على "إلغاء" بعضهم البعض.
في كلا التجربتين كان الفاتيكان، عبر انتداب مبعوث خاص له إلى لبنان، يجهد في تهدئة النفوس المحتقنة، دون أن ينزع من القلوب حقداً مستورداً من الخارج، وتجربة مستولدة على قياس نظام الفيدرالية. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم، كان البطريرك يرى نفسه عالقاً بين سندان الانتماء المسيحي على مستوى الطائفة، وبين مطرقة الخوف من الاندثار، والذوبان في وسط إسلامي يهدّد فرادة الحضور الماروني في لبنان والشرق كله، ويكاد ينزع ريادة الموارنة على مستوى رئاسة البلد دون أن يفقد هويته العربية، التي يطغى عليها الطابع الاسلامي في الانتماء العام للدول العربية على مستوى الحكم أو الشعوب.
من يتحكم بالقرار المسيحي؟
كل الأنظار في لبنان تتجه اليوم إلى بكركي حتى يتبين الدخان الأبيض من الدخان الأسود، وأنظار البطريرك نصر الله صفير تتجه إلى الكل.. الماروني، وتكاد تقرأ في صفحة وجهه تفاصيل يأس وتقاسيم ترقّب حذر وخارطة متشابكة، اختلط فيها الديني بالسياسي، والطائفي بالوطني، والشرقي بالغربي، والعربي بالأجنبي، وما زال الانتظار سيد الموقف ليبني اللبنانيون على الشيء مقتضاه.. أو منتهاه، في حين أطلق الرجل ما يشبه "الحجة" على من يعنيهم الأمر، ويقول: "إذا وضعنا لائحة بالمرشحين هل يؤخذ بها؟!".
وها هم خصوم الأمس بالوجوه والأسماء ما زالوا خصوم اليوم وجوهاً وأسماء، ولكن موازين المعركة تختلف اليوم عن سابقاتها، وخطورة هذه الخصومة ـ ولو أنها لا تكتسب ميزة عسكرية كما في السابق ـ تدفع إلى التفكير في واقع المسيحيين بشكل عام والموارنة بشكل خاص، ومصيرهم في لبنان الذي بات على المحك، وهو ما يقلق البطريرك الثمانيني الذي يرى مدى ضيق دائرة تأثيره على القرار السياسي للمسيحيين، دون أن يكون له القدرة على الحسم، فهو يرى أن لا ولاية له ولا سلطة، ولا يمتلك الآليات التي تحكم مسار "المرشحين الكثر للرئاسة"، ولا يبقى عنده سوى أن "يرى" وينتظر مع المنتظرين.
فيتو في وجه أوروبا والفاتيكان
يدرك البطريرك الماروني أن الوقت بات ضيقاً، وأن الضغوط أصبحت في مستوى لا يمكن معها الاستمرار في التسويف، وأن كل يوم يمر يجعل من الحل منالاً بعيداً، وخصوصاً أن مبادراته الداخلية فشلت في الحقل قبل أن تصل إلى البيدر، وأن الفيتو الأميركي قد تجاوز الأطر السياسية ليفرض ظله الثقيل على الواقع الديني الذي تمثّله بكركي بالنسبة للموارنة ـ الكاثوليك، وبالتالي فإن دور الفاتيكان، مع الزيارة الأخيرة للمبعوث الخاص "لويجي غاتي"، لن يكون له أثر مع الطغيان الأميركي، بخلاف أثره في السابق حين كانت صلة المسيحيين محصورة بالأم الفرنسية الحنون. ولم يكن، كما لن يكون، للدور الأوروبي أي أثر في تحريك المياه الراكدة على مستوى القرار المسيحي، وخصوصاً أنه لم ينل مباركة المايسترو الأميركي، وهو ما انعكس في إخفاق الحركة الاستعراضية ـ الدعائية للترويكا الأوروبية ـ الكاثوليكية في بلورة أي صيغة حل يجمع عليها المسيحيون بشكل عام والموارنة بشكل خاص.
ولا يخفي البطريرك الماروني ضرورة التزام القرار المسيحي بالغرب، ولو أنه يقسّم الغرب بين قريب أوروبي يجمعه به انتماء كنسي بحدود معيّنة، وبين بعيد أميركي بات اليوم من القرب بمكان بحيث أمكنه أن يتدخل بين الأخوة وأهل الدار والجيران، وأن يقرر جدول الأعمال اليومي لأتباعه والسائرين "خبط عشواء" على غير هدى، ولعل صفير قد استجمع شجاعته لينتقد الدور الأميركي بشكل شبه علني، ويحمّل واشنطن مسؤولية تشرذم القرار المسيحي، من خلال توزيع المواقف المتناقضة، حيث لم تحدد الادارة الأميركية موقفها من الاستحقاق الرئاسي "فأحيانا يقولون لنا إنهم مع الثلثين وأحيانا مع النصف زائداً واحداً، أو إنهم يؤيدون بقاء حكومة الرئيس السنيورة في حال الفراغ".
ماذا ينتظر صفير؟
والحال هذه يصبح تقويم البطريرك صفير للواقع الحالي على مستوى الاستحاق الرئاسي، وبلسانه أمام زوّاره على الشكل التالي: "هناك صعوبات كثيرة.. تعرفون أن المرشحين كثر ولكن المطلوب واحد.. الامور ليست من السهولة بمكان.. لقد عبتم علينا أننا لا نفعل شيئا في هذا السبيل، لكنكم تعرفون في الوقت عينه، وليس تبريراً لنا، أننا جمعنا الاحزاب اللبنانية في 14 و8 آذار ولم يجتمعوا معاً، ولم نرد أن نجمعهم لأسباب تعرفونها، وهي تاريخية، ولكن ارتأوا أن يكون هناك لجنة مصغّرة.. وسنرى إذا كان بالامكان أن نهتدي الى رئيس".
وفي موازاة هذا التشرذم الذي يتحمل مسيحيو 14 شباط المسؤولية الكبرى في الوصول إليه، تبرز خشية البطريرك صفير من تداعيات سلبية ستنشأ حكماً في حال عدم الانصياع لـ"تمنياته"، وهو لم ولن يقدم على تسمية أي مرشح للرئاسة خوفاً من رفض هذا المرشح من قبل الأقطاب المسيحيين في فريقي الموالاة والمعارضة، وبذلك يكون صفير قد أطلق بنفسه رصاصة الرحمة على ما تبقى من هيبة بكركي، فضلاً عن أن هذه التسمية قد تأتي في خضم تطوّرات سياسية أو أمنية داخلية أو إقليمية تقضي على أي أمل في نجاح خطوته. ولم يعد أمام البطريرك إلا الهروب إلى الأمام ورمي كرة الاستحقاق الرئاسي في ملعب النواب والمجلس النيابي، ولكن الثابت لديه يبقى أمنيات ودعوات برحمة من الله وهدىً ينزل على قلوب المسؤولين.
محمد الحسيني
الانتقاد/ العدد1239 ـ 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018