ارشيف من : 2005-2008

أسعار الأدوية في لبنان الأغلى في العالم : الغش والتجارة وغياب السياسة الرسمية.. داء "الدواء"

أسعار الأدوية في لبنان الأغلى في العالم : الغش والتجارة وغياب السياسة الرسمية.. داء "الدواء"

كشفت وسائل الإعلام عن فضيحة في الآونة الأخيرة حول كميات من الأدوية حصل عليها لبنان كمساعدات في حرب تمّوز ولا تزال موجودة في مستودعات مرفأ بيروت بطريقة غير سليمة ولأسباب مبهمة، أوعز رئيس الحكومة الفاقدة للشرعية فؤاد السنيورة بنقلها إلى مستشفى بيروت الحكومي ليجري فرز الصالح منها.
وبرغم أن ملابسات بقاء هذه الكميات من الأدوية في المستودعات حتى اليوم لم تتوضح، فإن هذه الفضيحة الجديدة التي تضاف إلى سجل السلطة الحالية شرعت الباب على أسئلة كثيرة يصح القول عنها إنها أقرب إلى الهواجس التي فرضها واقع "الدواء" في لبنان، سواء لجهة ارتفاع الفاتورة الدوائية أو لما هو أخطر من ذلك، وهو "وجود أدوية غير صالحة ومغشوشة في السوق اللبنانية تصل نسبتها إلى ما يفوق 30%"، بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية.
ولعل الحديث عن الواقع الصحي في لبنان في خضم الأزمة السياسية الحاصلة وظروف الاستحقاق الرئاسي يندرج في إطار تسليط الضوء على هموم المواطن اللبناني، إذ إن الملفات الأخرى قد تحتمل تسويفاً وإهمالاً من قبل الحكومة أو السلطة المتحكمة بمقادير البلاد، وحده أمن المواطن الصحي الذي يبدو هو الآخر مكشوفاً يبقى حاجة ملحة يجب أن يشكل أولوية لأي عهد جديد.

 الدواء يشكل 25% من الفاتورة الصحية

80% من الأدوية لا تزال أسعارها مرتفعة

يعتبر الغوص في ملف الدواء في لبنان أشبه بالدخول إلى متاهة متشعبة الأطراف تبدأ بحجم الفاتورة الدوائية التي تعتبر الأغلى في العالم ولا تنتهي عند غياب الرقابة ودخول بعض الأدوية المشبوهة إلى لبنان. وإذ يعتبر أداء بعض الأطباء والصيادلة والمستوردين مشكلة حقيقية بالنسبة إلى ارتفاع الفاتورة الصحية، يتكلم البعض عن مافيات تحكم القطاعات.. ويقر آخرون بمخالفات ومشكلات ترفع سعر الدواء، وبالتالي الفاتورة الصحية.
بحسب ما يقول النائب د. اسماعيل سكرية فإن "سوق الدواء في لبنان لا تزال تخضع للخلفية التجارية بنسبة كبيرة، ما يجعل أسعار الأدوية في لبنان الأغلى في العالم وبفوارق جنونية. وعلى سبيل المثال أحد الأدوية الصينية يباع بدولارين في الأسواق العالمية، أما في السوق اللبنانية فيباع بأربعين دولاراً"! ويعيد سكرية السبب في ذلك إلى "غياب سياسة دواء وطنية تطبق بشكل حيوي ومسؤول وعدم وعي اللبنانيين كفاية بالنسبة الى الأدوية، ما يجعلهم يستهلكون أدوية مباشرة من الصيدلي من دون وصفة طبية، وتبلغ نسبة هؤلاء من 60% الى70%. يضاف إلى ذلك تنامي عدد الأطباء المتواطئين مع شركات الأدوية لوصف أدوية غالية ومكلفة، وغياب الرقابة الكافية على الأسعار".
تبلغ نسبة استهلاك الدواء 25% من حجم الفاتورة الصحية التي وصلت نسبتها في عام 2006 إلى 686700000 دولار، وهي نسبة مرجحة للارتفاع هذا العام حيث بلغت في أشهره الستة الأولى 350 مليون دولار، ما يعني أنها قد تتعدى 700 مليون دولار.
وإزاء هذه الأرقام المرتفعة يؤكد سكرية "أن الباب مشرع أمام رفع الأسعار تحت حجة الاقتصاد الحر، فيما لا وجود للائحة أساس للدواء كما سائر دول العالم تعتمد من قبل وزارة الصحة والمؤسسات الضامنة". مضيفاً: "الحديث عن انخفاض في أسعار بعض الأدوية صحيح، غير أن ما نسبته 80% من الأدوية لا تزال أسعارها مرتفعة".
وإذا كان المواطن اللبناني يدفع ثمناً غالياً لشراء الأدوية، فإن الثمن الأغلى هو ما قد يدفعه لقاء دواء مغشوش أو ممدد الصلاحية أو مجهول المصدر أو مسحوب من السوق العالمية ولا يزال يباع في السوق اللبنانية! هنا يبدو الواقع أكثر خطورة، وكما يؤكد سكرية: "هناك حوالى 4000 صنف دواء في لبنان، وهذا عدد ضخم قياساً الى السوق اللبنانية. وبرغم أن هناك الأدوية الجيدة والجيدة جداً، فإن هناك أدوية مشبوهة الفعالية نسبتها تتراوح بين 30% و35% بحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية". منتقداً "من يحاول أن يبسّط الأمر ويخالف الحقائق بالحديث عن نسبة قليلة من هذه الأدوية". ويشير سكرية إلى أن السبب الرئيسي "هو غياب مختبر يراقب نوعية الأدوية، حيث إن لبنان الدولة الوحيدة التي لا تملك مختبراً للرقابة على الدواء، وليس من المفروض إرسال الأدوية إلى الخارج لمراقبتها".
وعلى خطورة هذا الانكشاف الأمني الصحي فإن المستشفيات بحسب ما يقول د. سكرية "تلعب دوراً في تسويق هذه الأدوية، ذلك أن الدواء في المستشفى يصرف على شكل حبوب ولا يحتاج إلى تغليف! يضاف إلى ذلك ما كشفته فضيحة "أدوية الماء" التي يتورط فيها ما لا يقل عن 10 مستشفيات! أما الموضة الجديدة كما يصفها سكرية "فهي تعاقد المستشفى مع جامعة ما وإطلاق تسمية المستشفى الأكاديمي على نفسه، وهو ما قد يكون في خلفياته على علاقة بالدواء، إذ إن المستشفى يستورد بعض الأدوية تحت شعار "البحث العلمي"، فيما يكون الهدف تجارياً".
وإذ اعتبر سكرية أن غياب سياسة صحية وطنية يشكل سبباً رئيسياً لأزمة الدواء في لبنان، فإنه استعرض مقومات هذه السياسة على الشكل التالي:
ـ كف يد التدخل السياسي.
ـ تغطية سياسية لكي يطبق أي وزير صحة سياسة صحية وطنية.
ـ عملية إصلاح إداري داخل الوزارة والقطاع الصحي.
ـ تفعيل المجلس الأعلى للصحة.
ـ سياسة دواء وطني تعتمد لائحة اساس للدواء.
ـ تفعيل المكتب الوطني للدواء مشروط بوجود مختبر يراقب نوعية الأدوية.
ـ توحيد الصناديق الضامنة أو أقله التنسيق في ما بينها.
ـ توحيد التسعيرات الطبية.
ـ تشديد الرقابة والمساءلة.

نقيب الصيادلة

الصورة بالنسبة الى نقيب الصيادلة د. صالح دبيبو لا تبدو على هذا القدر من السوء، وإن اعترف بوجود ثغرات عدة، ولكنها محدودة. فنقيب الصيادلة "يفضل النظر إلى النصف الملآن من الكوب وليس النصف الفارغ"، وإن كان الأمر يتعلق بالواقع الصحي.
وبحسب دبيبو فإن ارتفاع اسعار بعض الأدوية في لبنان يعود إلى أن "لبنان مفتوح على مصادر كثيرة للدواء الذي يعتبر من السلع المنضبطة في لبنان، كما أن الوضع الاقتصادي جعل الدواء يشكل عنصراً ضاغطاً على المواطن". مشيراً إلى "أن الحديث عن انخفاض أو ارتفاع في أسعار الدواء ليس دقيقاً، فسعر الدواء لا يتغير إنما سعر صرف العملة هو الذي يتحكم بالسعر. كما أن وزارة الصحة تجري دراسة كل سنتين لمقارنة الأسعار بتلك في دول المنشأ أو دول الجوار".
وحول الفارق في السعر بين صيدلية وأخرى يشير دبيبو إلى أن "النقابة تؤدي دورها الرقابي على الصيدلي وتتابع أوضاع المؤسسات الصيدلانية كافة التي تستورد وتوزع وتصرف الدواء". وفي ما يتعلق بالتفاوت في الأسعار فمرده إلى أن الصيدلي يتبع مؤشراً يصدر عن وزير الصحة الذي يحدد سعر الدواء بحسب وضع العملات، على أن تلتزم الصيدليات كلها في حال جرى تعديل في السعر.. إلا أن ذلك لا يمكن أن يجصل بكسبة زر، وهو ما يسبب التفاوت الذي قد يستمر ليومين او ثلاثة وليس أكثر".
ويستطرد دبيبو ليضيف سبباً آخر لهذا التفاوت الذي "يكمن في التعديل القانوني الذي أجاز للصيدلي التنازل عن جزء من أرباحه التي تسمى "جعالة"، أي النسبة المخصصة للصيدلي من سعر الدواء"، وهو ما يراه دبيبو "سبباً للمنافسة بين الصيادلة والمؤسسات الأخرى كالمستوصفات التي تنعكس سلباً على المواطن وصحته".
هذا لجهة سعر الدواء، أما لجهة نوعيته فبرغم إقرار نقيب الصيادلة بالخلل الناتج عن عدم وجود مختبر مركزي للرقابة على الدواء فإن نسبة الدواء المزور في لبنان لا تتعدى النسبة  العالمية التي تبلغ بين 6 ـ 10% مؤكداً "أن ذلك لا يعني السماح بوجود دواء مزور ولو كان واحداً، فللوزارة والنقابة تدابير وإجراءات ليست سهلة إزاء من تسول له نفسه الإقدام على مخالفة كهذه".
وإذ يؤكد دبيبو أن دفاعه كنقيب للصيادلة عن الصيادلة وعن المواطنين، يعتبر أن "من الضروري اليوم ضبط جعالة الصيدلي من جهة ووضع قانون يضبط أداء المستوصفات التي أدرج عمل بعضها في الإطار السياسي والتجاري.. علماً أن المستوصفات اليوم تشكل ملاذاً للمواطن المنهك تحت ثقل الأعباء الاقتصادية والمعيشية، والذي يبدو شراء الدواء من الصيدلية بالنسبة إليه ترفاً يمكن الاستغناء عنه في ظل وجود المستوصفات الطبية".
هو الفساد يتغلغل في مرافق الحياة كافة وصولاً إلى القطاع الصحي، وما ملف الدواء وما يكتنفه من مشاكل وأزمات سوى جزء من هذا القطاع الذي يعاني من تخمة على مختلف الصعد، من سوق الدواء إلى المستشفيات والمراكز الصحية مروراً بالصيدليات وحتى الأطباء، كل ذلك دون أن يؤدي إلى تخمة مماثلة في نوعية الخدمات الصحية للمواطن اللبناني.
ميساء شديد
الانتقاد/ العدد1239 ـ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2007

2007-11-02