ارشيف من : 2005-2008

بين نخبوية "الملك فاروق" وشعبية أهل "الحارة"..تساؤلات اللاوعي العربي..

بين نخبوية "الملك فاروق" وشعبية أهل "الحارة"..تساؤلات اللاوعي العربي..

.. ولئن انتهى شهر رمضان المبارك وموسم المسلسلات والعروض الدرامية، إلاّ أن التبعات والنتائج والتعليقات ما زالت مستمرة، تراوح بين الآراء والمواقف والتحليلات ودراسة الظاهرة..
أي ظاهرة؟
بلا أدنى شك، تلك التي كشفها وفجّرها المسلسل السوري الأشهر في هذه الأيام "باب الحارة"، الذي ما زال حتى اليوم يفاجئ الناس والنقّاد والكتّاب، وحتى أصحاب العمل نفسه.. بما دلّ عليه من أهواء وأمزجة في الشارع العربي وداخل الشرائح الإنسانية.. مدلولات، اكتشفها كل واحدٍ منا بداخله.. داخل شخصيته، وعقله، وتفكيره، ومزاجه الخاص..
والسؤال: هل كان الفرد العربي وحتى المجتمع العربي، بحاجة إلى عمل درامي مثل باب الحارة حتى يتأكد أكثر مما يجول بداخله من نزعات وأهواء؟
حتى لا نتفلسف كثيراً، نبسّط الموضوع بالقول: إن الصدفة وحدها هي التي لعبت الدور الأكبر بنجاح المسلسل وفرض سطوته، والصدفة وحدها جعلت الشركة المنتجة للعمل تنتج الجزأين بوتيرة واحدة وحماسة انتاجية عادية.. كان الأمر في البداية مشابهاً لكل الأعمال الأخرى، لكن، مع متابعة الجمهور في كل البلاد العربية لتفاصيل الجزء الثاني بدا الأمر وكأن الشعوب العربية تفتقد أجزاء وثيقة الصلة بوجدانها وكيانها من دون أن تدري، وفجأة وجدت ما تفتقده في المسلسل!!!
بدأ الجزء الثاني يضع يده على الجرح، ويمسك الإنسان العربي المقهور من يديه الاثنتين اللتين تؤلمانه! وليس فقط من يدٍ توجعه كما يقول المثل..
كُتب الكثير عن النجاح المنقطع النظير للمسلسل ولتفاصيله الدرامية، وحُكي أيضاً عن تأثيره المباشر في الناس، وعن تحوّل أبطاله إلى ما يشبه الزائر الدائم في البيوت وداخل الحيوات العائلية والأُسرية.. ناهيكم عن بعض عباراته وجملة، التي تحوّلت إلى لازمة دائمة على الألسنة.. إلى رنّات على الهاتف، إلى نكات وإشارات..
والكلام الكثير عن التأثير والنجاح محا الكلام عن بعض الثغرات التربوية في المسلسل! النجاح والتأثير المدوّيان للعمل، ألغيا أيضاً ـ تقريباً ـ كل نقدٍ وتحليل لأعمال أخرى، لسنا هنا بصدد التوقف عندها نظراً لعددها الكبير، لكنني سأحاول القياس على مسلسل آخر، عدّه النقّاد والمتابعون أهم مسلسل وأضخم عمل وأنجح انتاج .. الخ
ألا وهو: الملك فاروق!
فهذا المسلسل التاريخي السياسي الاجتماعي، المخطط لإنجازه منذ أكثر من عشر سنين، خرج للأضواء هذا العام، وتلقفه المشاهدون ـ كما كان متوقعاً ـ بكل اهتمام ومتابعة.. (وإن كان الاهتمام المصري فاق سواه، وهذا مردّه لأسباب طبيعية معروفة..).
لكن ربما ما لم يكن متوقعاً منذ سنوات، هو أن ينتج العمل بجهود سعودية، وعبر شركة انتاج سعودية تحديداً، وهذا ما زاد من بعض التكهّنات، خصوصاً تلك التي ربطت بين تلميع صورة فاروق الملك، وما تحمله من "رمزية" لأنظمة ملكية أخرى..
المهم: أُنتج المسلسل وتم عرض حلقاته، ولاقى الاستحسان والقبول بشكل عام، لأن الأمر لا يخلو من تعليق، واستمتع محبّو العمل باسترجاع المحطات السياسية التي شكلت منعطفات حاسمة وبارزة في سياسة مصر وتاريخها مطلع القرن العشرين.. مع ملاحظة ما يمكن أن يشكّله السياق الدرامي بالنسبة لمن عايش بعض تلك المراحل.. وما يمكن أن يكون الجيل الحالي قد اطلع عليه، من تفاصيل تاريخية وسياسية كان يجهلها.
ولئن كانت شخصيات "باب الحارة" بشعبيتها وتلقائيتها وعفويتها وحواراتها قد صنعت نجومية العمل، فإن الأمر مغاير في "الملك فاروق".. أنا شخصياً أجد أن النجم الأول في هذا العمل هو الكاتبة الدكتورة لميس جابر، زوجة النجم يحيى الفخراني، التي اعتقدت طيلة السنوات الماضية أن زوجها سيكن هو البطل الذي سيؤدي دور البطولة في شخصية "فاروق" عن نصٍ تكتبه.. لكن ظروف التأخير والتأجيل التي حصلت، أدت إلى عدم تناسق الدور مع شخصية الفخراني حالياً، دون أن ننسى أنه اعتذر شخصياً عن الدور، لأنه كبر عشر سنوات كما قال !..(منذ بداية الفكرة وحتى وضعها موضع التنفيذ). نجومية الدكتورة لميس تعود إلى مسؤوليتها المباشرة عن كل شاردة وواردة في تفاصيل العمل وكواليس الحياة السياسة، التي قدّمتها للمشاهد العربي.. كانت النتيجة الأكبر التي انتهى اليها المسلسل هي ذلك السؤال العريض والكبير الذي سأله معظم المتابعين باستغراب:
أهذا هو حقاً فاروق؟؟ أهكذا كان فعلاً؟ وأين شخصية الماجن، السكير؟  العربيد.. الخ؟
فالذاكرة العربية ومنذ ثورة يوليو 52 تحديداً، متخمة بالصور السلبية والبشعة جداً لفاروق، الملك المستهتر والماجن العابث..
الذي يمضي لياليه ونهاراته متنقلاً من خمّارة إلى أخرى.. ومن ملهى راقص إلى آخر.
وقد تكون هذه هي النقطة الوحيدة التي شغلت متابعي "الملك فاروق".. التساؤل عن التطابق بين ما عرضه المسلسل وما كان الواقع الحقيقي عليه.. وهذه التساؤلات جعلت الكثيرين يعودون إلى قراءة بعض المصادر والمراجع.. والى البحث من جديد عن الحقيقة وعمّا كان يجري في تلك السنوات، وهل كان فاروق محبا للإنكليز أم كارهاً لهم؟.. وكل هذه التساؤلات التاريخية والسياسية لم يكن لها أي وجود في مسلسل "باب الحارة" ذي الصبغة الشعبية بامتياز!!
من هنا، يبدو مستوى كل عمل معاكسا للآخر ومتناقضا معه تماماً. وكأن الملك فاروق يخاطب شريحة النخبة السياسية تحديداً، المؤرخين، الأكاديميين الخ.. أما "باب الحارة" فهو روح الحياة البسيطة بتفاصيلها اليومية، روح الفقراء والفلاحين والحالمين بالأرض والتراب..  عالم بائع الحمص والحدّاد والحلاق والداية.. بعكس الملك فاروق وعالم القصور واليخوت المحروسة والسهرات الباذخة والحفلات الارستقراطية وطبقة السياسيين والحاكمين.. مع أن الفترة الزمنية تكاد تكون واحدة! فمجريات الملك فاروق هي زمن ما بعد العشرينيات، وباب الحارة كذلك، أي نفس المرجعية الزمنية، فهل المسافة فاصلة وشاسعة إلى هذا الحد؟؟ بين مجتمع الملوك والسياسة ومجتمع البسطاء والحارات؟؟ كانت كذلك منذ أكثر من ثمانين عاماً.. وما زالت حتى اليوم؟؟!
إذاً..
بعد النجاح اللافت للحارة الشامية ربما صرنا نملك دليلاً جديداً على بوصلة المزاج العربي، ومزاج شعوب هذه المجتمعات المكبوتة على حنينها إلى زمن القيم والشرف والمروءات المفقودة.. فزمن العولمة والمال والبذخ ليس مرحباً به في عالم اللاوعي العربي.. وحتى زمن العريّ والشفط والترميم والنفخ، فضحته "ملايات" نسوة الحارة والنقاب المسدل على وجوههن، فثورة أهل الحارة تقوم اذا ما كشفت "قرعة" إحداهن.. بعكس هذا الزمن الذي انكشفت فيه كل العورات.. لكن الذين استحوا.. ماتوا.
فاطمة بري بدير
الانتقاد/ العدد1239 ـ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2007

2007-11-02