ارشيف من : 2005-2008

الهوية عندما تصنعها الرموز البصرية

الهوية عندما تصنعها الرموز البصرية

يلعب الشعار البصري  أو "اللوغو"، دوراً كبيراً في صناعة الهوية، وبناء العنصر الكياني، الذي يخلق مع الأفراد، أو الجماهير، رابطا عضويا مركزيا، قد يؤدي بالبعض إلى درجة الموت في سبيل هذا الشعار، الذي هو بشكل أو بآخر رمز اختزالي للوطن أو الحزب أو المؤسسة أو غيرها من الأطر.
إن الخصوصية البصرية، الاختزالية، التي يصنعها "اللوغو"، تعزز حضور الكاريزما بدرجات متفاوتة، إذ أنه في مكان ما قد يكون اللوغو هو الرابط الأكبر بين الوطن (مثلاً) والمواطن، في حال تحدثنا عن علم الدولة، والرمز الرئيسي الذي يحمله.
وطبعاً سيكون التأثير أقل حضوراً في حال كان هذا اللوغو واحدا من مجموعة، تؤلف شعارات لماركات عديدة، تابعة لمؤسسة واحدة، عدا عن أن البعد التجاري هنا، يقلل من حدّة العصبية المفترضة للالتفاف كلياً تحت عباءة هذه الماركة أو تلك.
إنّ الكاريزما في أكثر أشكالها وأنواعها، تستند إلى مادة بصرية، قد تكون شكل القائد، أو ألوان العلم، أو اللباس الوطني، أو أي إشارة باليد، وغيرها من الاحتمالات. لكن ما يميز اللوغو، هو المقدرة على الاختزال، وسرعة وسهولة استعماله من قبل المناصرين، على الجدار كما على الثياب، أو حتى وشماً على الجسد.

الشعار البصري كقرينة
لا نستطيع تخيل الحزب النازي الألماني، من دون شعاره الشهير، الصليب المعقوف، إلى درجة أن الزمن قد محا الكثير من البصمات النازية وأفكارها، دون أن يتأثر هذا الشعار، الذي يعشق الفتية رسمه، لسهولة فكرته، وتناسق خطوطه، دون ان يعلموا، أو حتى يعنيهم ماهية هذا اللوغو وما يمثّل.
حتى نجمة داوود، التي اعتمدها الصهاينة، شعاراً في عَلَمهم، تمتعت بذات الخاصية، بساطة الشكل وتناسقه، سهولة رسمه.
شيوعياً كان لشعار المنجل والمطرقة، الذي يمثل ثنائية الفلاح والعامل، الدور البصري الأكبر، في اختزال الفكر الماركسي.
وإذا تطرقنا إلى دول أخرى، تلفتنا الأرزة في العلم اللبناني، والنجمة والهلال في العلمين التركي والجزائري، وهناك النسر في العلم المصري، وكلمة الله في العلم الإيراني.
لكن المشكلة عند البعض وتحديداً في القرون الماضية، تكمن في الشعار المعقد، الكثير الرموز، الصعب  التنفيذ من قبل العامة، وهو ما نراه حالياً في بعض الشركات والنقابات التي تريد جمع مجمل أفكارها وأهدافها في شعار واحد، فنشاهد السنبلة إلى جانب الشمس والقبضة، مع صورة لمصنع متداخل بكلمات وأحرف.
طبعاً هذا لا يمنع حضور الجمال في الشعارات المعقدة، إنما هناك مشكلة أكيدة في تكرار الشعار ورسمه من قبل الأنصار، هنا نلفت إلى أن الشعار مسألة مقترنة بمعظم الدول تاريخياً، وغالباً ما كان يحضر في ختم الملك أو الأمير، أو الامبراطور أو الفرعون، وهو عند هذا عبارة عن أسد وعند ذاك عن أفعى أو شمس.
بين اللوغو والجهة التي يمثلها، ثمة قواعد تحكم العلاقة، فإذا قويت إحدى الجهتين، قويت معها الأخرى، أو إذا انهزمت أو ضعفت الجهة التي يمثلها اللوغو، فليس من الضرورة أن يتأثر اللوغو كشكل وحجم انتشار، بل الأرجح أن الهيبة التي يختزنها ستتضعضع.

الألوان
بعيداً عن دلالاتها، والتنظيرات التي ترافقها، فإن لبعض الألوان سحراً وكاريزما، تتميز عن غيرها من الألوان، وهنا نسجل بالدرجة الأولى هيبة ألوان مثل الأسود والأحمر، أما للدرجة الثانية فهناك  الأخضر والأزرق، وللدرجة الثالثة، البني والرمادي والزهري.
إن الألوان تدخل كعنصر أوّلي في أي معادلة جمالية، حيث لا شكل خارج اللون، إلا إذا استثنينا الماء والزجاج وما شاكل. اذا أردنا التطرق إلى أمثلة عملية حديثة، نأخذ ليبيا كنموذج يمكن البناء عليه، فدعونا نتخيل ليبيا خارج اللون الأخضر الذي شكل البنيان الرئيسي لصناعة هويتها بعد الثورة التي أوصلت العقيد معمر القذافي إلى سدة الحكم.
قليلة هي العناوين التي صدّرتها الجماهيرية الليبية، والإعلام يكاد يكون غائباً كلياً عن المشهد اليومي الليبي، من النواحي السياسية والثقافية والاجتماعية والرياضية والدينية. اللهم إلاّ اللون الأخضر الذي كان فلسفة القذافي، الذي ألف الكتاب الأخضر، وحوّل علم البلاد إلى اللون الأخضر الكامل، دون أي تفصيل آخر، كما حضر اللون الأخضر في مجمل الهوية البصرية من مطبوعات وجدران وصولاً  إلى أسماء المشاريع والمصانع.
طبعاً للعقيد القذافي خصوصية طبعت العنوان الليبي، وهي خصوصية مرتبطة بالألبسة الغريبة التي يرتديها، والأفكار الأغرب التي  يطلقها من حين لآخر، أما إذا أردنا استعراض مثل أكثر حداثة، فنأخذ "التيار الوطني الحر" في لبنان الذي كان وبرغم جماهيره الغفيرة، حالة، خارج الهيبة الكاريزمية، إلا فيما يتعلق بزعيم التيار العماد ميشال عون، إلى درجة ان أنصار التيار لم يكونوا معروفين إلا باسم التيار العوني.
مع عودة عون من منفاه في باريس، بدأ تشكيل الحالة الكاريزمية العامة، التي ترسم إطاراً خاصاً يميز التيار ويوزع الولاء بين المؤسِّس والمؤسَّسة.
كان اللون البرتقالي عنواناً رئيسياً ومفصلياً في عملية التغيير، فأصبح بين ليلة وضحاها، عَلَماً وثوباً، وشعراً مستعاراً، وإطار نظارة، وحزام ساعة، كما تحولت بعض ألوان السيارات إلى اللون البرتقالي وكذلك ألوان الجدران والديكور وفرش المنزل، حتى أغطية قناني المياه التي يشربها عناصر التيار في الاجتماعات والتظاهرات تميزت باللون البرتقالي، وعندما حصل التيار الوطني الحرّ على رخصة لإنشاء فضائيته، كانت تسميتها بـ"أورانج تي.في" واللوغو عبارة عن حرف "O" الذي حوّر ليكون برتقالة في ذات الوقت، علماً أن الهوية البصرية للفضائية اعتمدت على اللون البرتقالي.
بعد هذه النقلة النوعية، اللونية، شعر أي مراقب، كما أي مواطن، أن صورة التيار في مخيلته، انتقلت من حالة ضبابية، غير محددة المعالم، إلى حالة أخرى شديدة الوضوح، والتميز والكاريزمية.
يساهم اللون الموحد، كما اللباس الموحد، في خلق حالة انصهار عضوي يقوّي المجموعة، ويلغي الفروقات بينها، ويُشعر الفرد بأنه جزء من كل، وكأن الجميع جسد واحد، والمثل البديهي الذي يتبادر إلى الذهن يتمثل بحالة الجيوش، حيث يعطي اللون الموحّد للبزة العسكرية، قوة خاصة، وهيبة مطردة، وعنفوانا وحماسة، لها تفسيرها في علم النفس، كما في العلم الطبي الجسدي، حيث تقوم إحدى الغدد بفرز مادة الأدرينالين في الجسم، ما يعطيه قوة وحماسة واندفاعا.
مثل آخر نعطيه حول اللون وآثاره الساحرة، والهيبة التي يعطيها للمجموعة، إنما من الدائرة الدينية هذه المرة. ففي ذكرى عاشوراء التي يحييها المسلمون الشيعة في شهر محرّم من كل عام لاستذكار مأساة الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه، وأيضاً لأخذ العبر من الملحمة التاريخية التي تحول فيها الموت إلى أداة انتصار.
في هذه المناسبة، يرتدي معظم الشيعة اللون الأسود، وهو تعبير عن الحزن، لكن من ناحية أخرى، تحول هذا اللون، إلى علامة فارقة، وإطار يجمع أبناء الطائفة، كما يعمّق اللون من درجة الولاء، حيث يتحول مرتديه من طرف مطل على المشهد التاريخي، إلى شريك عضوي في المأساة، فاللون الأسود هنا يحول الشخص إلى واحد من أهل الامام وأصحابه، ففي الشائع أن من يرتدي الأسود على الراحل، هم أهله وعشيرته.
ان حجم انتشار اللون الأسود في عاشوراء، يُشعر مرتديه أنه جزء من كل، من دائرة شديدة الاتساع، وهنا يتحول اللون إلى رابط، يعزز الإحساس بالقوة التي تعطي الهيبة، كواحد من أوجهها.
عبد الحليم حمود
الانتقاد/ العدد1239 ـ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2007

2007-11-02