ارشيف من : 2005-2008

سيرة الشهداء... ذاكرة المقاومة

سيرة الشهداء... ذاكرة المقاومة

كتبت حياة الرهاوي
ثقافتنا هي ثقافة الحياة العزيزة والكريمة قبالة الموت الذي يحاصر من حولنا كل الأشياء ويحيلها رماداً على هياكل الروح لذا كانت ثقافتنا هي ثقافة الشهادة. الشهادة على عصر يزدحم فيه الفراعنة الذين يضيّقون الخناق على نسائم الحرية الآتية من جهة السماء.
في أجواء احتفالات حزب الله بـ"يوم الشهيد" تفتتح الزميلة حياة الرهاوي زاويتها التي من الآن فصاعداً ستكون أسبوعية بالحديث عن ابن شقيقتها الشهيد علي قريّاني. 

كل الحقائق
كم كانت باردة وطويلة تلك اللحظات، حيث كانت عيناها ترصد حركتي وتطوقني لتدخل إلى أعماقي محاولة كشف الحقيقة التي سعيت جاهدة لإخفائها.
في تلك الليلة كنت ممثلةً بامتياز...
أتكلف العفوية وأصطنع الشعور بالسعادة في محاولة للهروب من عينيها المتبصرتين المتمسكتين بحقيقة أن قلب الأم دليلها...
فقط في تلك الليلة استطعت فهم كنهِ ذلك الحبل السري الذي يجمع الأم بولدها فيكشف لها ما قد جرى عليه مكذّباً سيل التطمينات وموعد الرجوع المفترض.
في تلك الليلة لا أعلم من أين أتت شقيقتي بكل تلك الدقة والقدرة على الوقوف عند كل كلمة، وهي المرأة التي تصدّقُ جُلَّ ما يقالُ لها نتيجة شخصيتها الصادقة والشفافة.
النظر إليها كان يؤلمني وكذا التفكير في قول الحقيقة التي كنت أحملها، لذا قررت الانسحاب من ساحة المواجهة والتذرع بالمرض والتعب كي أهرب إلى مضجع يقيني على الأقل من الشعور بأني أخدعها.
دخلت الغرفة لأنام وإذا بها تأتي وتحملُ بين يديها وسادة تملؤها رائحة الحبيب، دفعت بها إليَّ قائلةً: هذه وسادة علي وأعرف كم تحبينه، لأجل ذلك أحبُّ أن تنامي عليها.
انتظرتها حتى خرجت لأدفن رأسي في تلك الوسادة وأغرق في بكاءٍ صامت أعادني سنواتٍ إلى الوراء، حيث كنت أنظر إلى علي كأنه جزء مني، أشذب نفسي من خلاله، أشعر بأنّي أقوم بكل الواجبات عبره...
أحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، فهو في نظري مشروع شهيد ويجب ألا أسمح لشيءٍ أن يعرقل تلك الخطة التي سار علي بالفعل عليها ليصبح مجاهداً من مجاهدي المقاومة الإسلامية.
ثبت علي وحقق في فترة قياسية تقدماً في عمله أمّن له عدّة مشاركاتٍ عسكرية أصيب في واحدةٍ منها، لكن طموح ابن العشرين عاماً لم يقف عند هذا الحد، بل كان حلمه أكبر من هذه الفانية، لذلك أقام الدنيا ولم يقعدها عندما طُلب منه البقاء في بيروت أيام العدوان التموزي. حيث يروي رفاقه بأنه بكى من أجل الالتحاق بالمجموعات التي كانت تقاتل في الجنوب.
أمام إصراره لم يجد المعنيون سبيلاً سوى إرساله إلى حيث كانت تتوق روحه... إلى أرض الجنوب... وتحديداً إلى بلدة "زبقين" التي شهدت آخر أيام عمره لتحتضنه أرضها بعد شهادته مدة اثني عشر يوماً قبل أن يتم انتشال جثمانه الطاهر ليعود عريساً قبل موعد زفافه الذي أسرّ لي قبل رحيله أنه سيسعى أن يكون بعد انتهاء الحرب...
كل هذه الحقائق كنت أحبسها في صدري وأنتظر حتى يطلع الصباح كي ألقي بها على أحد يريحني من كل هذا العذاب. فَقْد من تحب... ورؤية آخر يعذّبه نار الشك.
قضيت ليلتي متكورة على نفسي أشهد مخاض أطول ليلٍ في حياتي منتظرة ولادة صبحٍ سيحمل للمحيطين بي الكثير.
في ذلك الصباح كاد قلبي يتوقف عن الخفقان عندما رأيت شقيقتي تقطع شكها بيقين الخبر وهي تمسك بي قائلةً: كنت تعلمين...

ذاكرة المقاومة
كنت تعلمين
في تلك اللحظة لا أعلم من أي أتتني تلك القوة والطاقة على الصمود، حينها شعرت بأن علياً معي يقويني ويسندني ويمنعني من الضعف.
كنت أشعر به يهمس في أذني: "كوني قوية فالكل ينظر إليك"، لذلك وبكل قوةٍ وتحدٍ كنت أوزع الحلوى على المعزين قائلة: "هذا المكان ليس للعويل والبكاء إنما لتقبل التهاني والتبريكات".
شكلت لي تلك الأيام تجربة حياةٍ بأكملها، حيث وجهت بوصلتي إلى عالمٍ كنت أعرفه من الخارج فإذا بي في صلب محيطه.
هكذا دخلت إلى عالم الشهداء، وكأن ابن شقيقتي الشهيد علي قرياني كان دليلي وبطاقة عبوري إلى ذلك العالم الذي تزدحم فيه كل الحقائق.
الانتقاد/ العدد1240 ـ 9 تشرين الثاني/نوفمبر2007

2007-11-09