ارشيف من : 2005-2008
التكامل في شخصية الشهيد
بقلم : الشيخ محمد توفيق المقداد
الشهيد هو الإنسان الذي ضحى بحياته وقدّم روحه لله فداءً لدينه وعقيدته أو لمجتمعه وأرضه، انطلاقاً من الاعتقاد بوجود الله والإيمان بوحدانيته والالتزام بنهجه في الحياة الدنيا، والعمل بكل ما يزيد من الارتباط الروحي والمعنوي بالله عز وجل.
والشهيد هو الإنسان الذي ينطلق إلى الجهاد من موقع الاتكال على الله والاستناد اليه والثقة به، وأن ما عند الله في الآخرة للشهداء هو أعظم قيمة وأكثر أهمية مما هو موجود في هذه الحياة الدنيا من حطام زائل ونعيم يفنى ولا يدوم وكأنه وهم أو خيال يزول مع لحظة بزوغ فجر الحقيقة الأخروية بالموت قتلاً في سبيل الله.
والشهيد عندما يسقط وتصعد روحه إلى السماء يصبح فرداً من قافلة الشهداء المدافعين عن النهج الإلهي للحياة الدنيا، وتلك القافلة تضم الأنبياء والأولياء والصالحين والمقرّبين والمجاهدين ضد شهوات أنفسهم من الذين بذلوا المُهج والأرواح من أجل إنقاذ البشرية وخلاصها.
وأكثر التعابير دلالة عن قيمة الشهيد والشهادة هو ما ورد في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه "ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله"..
فالشهيد حي ولو غاب جسده وصار تحت التراب، هو بمبادئه والقيم التي قاتل من أجلها وجاهد في سبيلها حتى نال شرف الشهادة باختيار من الله عز وجل، لأنه هو الذي يختار الشهداء من بين البشر، لأنه الخالق والعالم بمن تليق به الشهادة، ولذا قال في القرآن الكريم "..وليتخذ منكم شهداء".
إلا أن أهم ما ينبغي الانتباه اليه هو: هل كل إنسان يطمح للشهادة ينالها ويختاره الله لأنه رضي بسلوك سبيل الجهاد المؤدي إلى الشهادة؟ أو أن للشهادة مميزات خاصة ولا يكفي أن يختار الإنسان الطريق الموصل اليها، وذلك لأننا من خلال الواقع نرى أن هناك أشخاصاً يختارهم الله شهداء ولو لم يمارسوا عملاً يجعلهم في معرض القتل في سبيل الله، وهناك من يسلك هذا الطريق ولا ينال الشهادة التي يسعى اليها، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن للشهادة أسراراً لا يعرفها إلا الخالق عز وجل وعباده الذين اختارهم ليكونوا شهداء.
وعندما نحاول أن نحلل الشهادة من منظارنا العقائدي الإسلامي نجد أنها نتيجة تكامل وانسجام وتفاهم بين البُعدين الروحي والمادي من حياة الإنسان الملتزم نهج الله في الحياة والعامل في سبيل إعلاء كلمته في الأرض، وهذا التكامل بين البُعدين المبني على التفاهم فيما بينهما هو الذي يجعل الإنسان مؤهلاً للشهادة، إلا أن هذا التفاعل والتكامل بين البعدين لا يعني الوصول للشهادة حتماً، إذ قد يكون هناك أشخاص ادّخرهم الله لمهمات جليلة وعظيمة وقد يموتون على فراشهم إلا أنهم لما كانوا مستعدين للشهادة، وباذلين أرواحهم في كل لحظة، فلهم عند الله مقام الشهداء.
فالبعد المادي هو المرتبط بحاجيات الإنسان في الدنيا من مأكل ومشرب وملبس وشهوات، والبعد الروحي هو المرتبط بتهذيب النفس وترويضها وكبح جماحها وربطها بالخالق سبحانه وتعالى، تستمد منه القوة في الإيمان والاعتقاد والفقه والتوكل والصبر والإرادة والعزيمة والصدق والاخلاص.
فالتركيز على الجانب المادي فقط ليس موصلاً إلى طريق الشهادة، بل قد يؤدي إلى عكس الاتجاه المطلوب، كما أن التركيز على الجانب الروحي فقط ليس موصلاً إلى طريق الشهادة، بل قد يؤدي الى عكس الاتجاه المطلوب، كما أن التركيز على الجانب الروحي فقط واغفال الجانب المادي يجعل الانسان عالة على المجتمع بسبب الاهمال وعدم الاعتناء بالجانب الذي يؤمن للانسان احتياجاته المادية.
فالمطلوب إذاً هو الجهاد على كلا الجانبين وفي كلا البعدين، فيكدح الإنسان في الحياة الدنيا لتوفير مستلزمات الجانب المادي، ويجاهد نفسه لتوفير مستلزمات الجانب الروحي، فالجانبان أو البُعدان هما متمايزان لأن كلاً منهما مرتبط بناحية خاصة من شخصية الإنسان المؤمن، إلا أنهما يتكاملان معها لإيصال تلك الشخصية إلى الدرجة المطلوبة من الاستعداد للوصول إلى مرتبة الشهادة السامية التي هي هدف كل إنسان مرتبط بالله عز وجل.
فالشهادة هي اختصار لكل القيم والمبادئ الإلهية والإنسانية السامية التي من أجلها خلق الله الإنسان وكرّمه وفضّله على الكثير من مخلوقاته الأخرى، لأن الشهادة هي التعبير الحي عن الذوبان في الطاعة للخالق وعن الإخلاص في النية والعمل، وعن الاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق رضا الله عز وجل.
من هنا يمكن القول إن الشهادة هي سر من أسرار الله فيما بينه وبين من اختارهم للشهادة، لأنه رأى فيهم الصفات المؤهّلة لنيل تلك المرتبة السامية والمنزلة الجليلة في عالم الآخرة بعد ما بذله هؤلاء من تضحيات في البعدين المادي والروحي في حياتهم، حيث أحبوا الله وعشقوه، فأحبهم الله وعشقهم واختارهم ليكونوا الى جواره من بين أبناء البشر.
ومن هنا نفهم قول رسول الله (ص) "إن فوق كل ذي برّ برّ، حتى يقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله، فليس فوقه برّ"، وكذلك قول أمير المؤمنين (ع) عندما ضربه اللعين ابن ملجم ففلق رأسه عندها قال "فزت ورب الكعبة"، أي أنه وصل الى الشهادة التي كان ينتظرها وهو يجاهد ويقاتل أعداء الله، ومن هنا نستوعب الحديث عن الإمام الحسين (ع) "إن لك درجة عند الله لا تنالها إلا بالشهادة"، تحققت الشهادة له (ع) على أرض الكرب والبلاء ووصل الى تلك الدرجة الرفيعة المدخرة له عند الله عز وجل.
من كل ذلك نفهم أن للشهادة لياقات خاصة واستعدادات متميزة ولا بد من توافرها في الشخصية التي يختارها الله لتكون في عداد الشهداء، وهذه اللياقات كما قد تكون حالة راسخة في نفوس وأرواح البعض، قد تتحقق أيضاً في لحظة ما وفي ظرف ما بحيث ينقلب كيان الإنسان ويصبح مستعداً لكي يختاره الله شهيداً.
ولهذا فنحن من موقعنا الإسلامي نعتبر أن الشهادة هي نصر وحياة وعز وغنى لا غنى بعده، وكرامة ما بعدها كرامة، لأن الشهيد هو نموذج الإنسان للآخرين الباحثين عن الخلاص والنجاة، وهو صاحب المقام الرفيع عند الله الى جوار كل الشهداء الذين سبقوه الى ذلك العالم الطاهر والنقي الشفاف.
الانتقاد/ العدد1240 ـ 9 تشرين الثاني/نوفمبر2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018