ارشيف من : 2005-2008
الشهيد ونورانية الشهادة
لقلم : الدكتور بلال نعيم
"والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم".. صدق الله العظيم
الشهادة تاج مرصّع يضعه الرحمان بيديه الأزليتين الأبديتين على رؤوس خاصة المجاهدين بعد مسيرة من الجهاد والتضحية والفداء. ومن نعم الله على المؤمنين ان يفتح لهم باب الجهاد لأنه لخاصة أوليائه. ومن نعم الله على خصوص بعض المجاهدين ان يرزقهم الشهادة ويتفضل عليهم بنيل مقامها، فالشهادة مقام علوي رفيع تضع صاحبها في مراتب الأنبياء والأوصياء والصديقين الذين يتربعون في صدارة من أنعم الله عليه "أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء".. فكل مؤمن يرحل الى ربّه يطمح ان يكون الى جانب الشهداء لأنهم أمراء أهل الجنة وسادة المؤمنين، وإن لهم أجراً خاصاً وجزاءً موفوراً وعطاءً لا انقطاع له، يستبشرون به مع ذويهم وأهليهم الذين يلحقون بهم.. وتكون لهم الى جانب ذلك شفاعة خاصة وحظوة عند الله يغبطهم على ذلك جميع سكان السماوات والأرضين.
وإن منشأ اجر الشهيد واضح، انه التجارة مع الله، فالمعوّض النفس والعوض الجنة والثواب الخاص الذي هو البشارة "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به"، لأنه التزام ومبايعة للحق في قوله وأمره وإرادته وتدبيره، فالشهيد هو مصداق لتمام التعبد بالأوامر الإلهية والتزامها بحذافيرها. فهو قد دافع عن هذه الأوامر وعن مندرجات العبودية ومضامين الرسالة حتى زهقت نفسه في هذا الطريق وضحى بأغلى ما لديه، وفي ذلك شاهد صدق على انتمائه والتزامه وامتثاله وعبوديته.
أما منشأ النورانية فأمر ملازم للشهادة وناتج عنها، ملازم لها في طريق تحصيلها وناتج عنها في المقام الذي توصل اليه. فطريق الشهادة هو الجهاد، والجهاد أقرب الطرق وأسرعها الى الحق، لأن فيه مجاهدة للنفس في ميادين الفعل والمنازلة وليس في الظنون والأقوال.. والجهاد توجه الى الحق وصرف نظر عن الدنيا وميل ظهر لها وتوجيه الوجه الى الآخرة وتطلع الى الغيب، الى السماء وإلى الكمال، فهو حركة تزكية للنفس على نحو عملي مع صدوف عن الدنيا وإقبال تام الى الحق وعليه. والحق نور، بل نور النور، بل أصل النور، انه النور الأول والآخر والظاهر والباطن، ونور كل نور.. من هنا كان التوجه الى شمس الشموس ونور الأنوار من دون إغماض العين وإطباق الجفن مع دوام التوجه والإقبال والاستمرارية على خط الجهاد والمجهادة، مع تراكم آثار التزكية بالرياضات الفعلية الحاكية عن صدق الامتثال للطاعات وصدق العبودية لله، كل ذلك يفضي الى انعكاس ذلك النور الأعظم في قلوب الأولياء المجاهدين الذين تظهر على صفحات وجوههم آثار ذلك النور القلبي، فإذا هم نورانيون في الدنيا قد لا يتسنى لبصائرنا المغشاة ان تبصر نورهم الساطع، لكن ذلك النور سوف يبدو جلياً يوم القيامة حيث يسعى نورهم بين أيديهم، ويبصرهم جميع الخلائق والملائكة المقربين.
اذن منشأ الأجر المتاجرة مع الله، وهي تجارة رابحة لا خوف فيها ولا حزن ولا مخاطرة او مجازفة. ومنشأ النورانية التزام الحق والتوجه اليه والصدوف عن عالم الدنيا الذي هو منشأ الاحتجاب والظلمة والغشاوة.
وإن لأجر الشهداء في الدنيا نصيباً، حيث الذكر والحضور والاحترام والتقدير للشهداء وحبهم وعشقهم والتمثل بهم، فغالباً ما يكون الشهداء من الفقراء وإلى جانبهم المترفون والمرفهون الذين يقيمون المشاريع وينفقون في سبيل ذلك الأموال ويحرصون على دوام ذكرهم بعد موتهم، وإذا هم يندثرون بعد الموت اسماً وذكراً وحضوراً، في حين ان الشهداء لم يلتفتوا الى شيء من هذه الدنيا ولم يحرصوا على دوام ذكرهم، بل على دوام الحق في عالم الشهادة، فإذا هم عظماء في الدنيا شامخون اسماً وذكراً وحضوراً كما هو شموخ الحق وخلوده.
كما ان لنور الشهداء تجلّيا في الدنيا، لأنه نور الحق، فإذا بالشهداء يضيئون به على أهل الارض في مساحات من التأثير مختلفة، تضيق او تتسع بفعل القابل من الناس في محيط الانفعال بشهادة الشهيد. وكذلك تضيق وتتسع بفعل حجية الشهيد في عالمه، تلك الحجية التي أصل نشوئها الشهادة، لكنها متأثرة حكماً بمواصفات الشهيد ومزاياه وخصوصياته، وصولاً الى شهيد الشهداء وسيدهم الإمام الحسين (ع) الذي غطت بركات وآثار دمائه مساحة الوجود أجمع، ما نراه وما لا نراه، حتى وصل الينا الاسلام بفعل تلك الدماء نقياً أصيلاً كما نزل وكما أراده الله سبحانه. وبمستوى قرب الشهيد من هذا السيد أبي عبد الله الحسين (ع) يكون مستوى الانفعال معه ودرجة حجيته في عالم الإمكان، لأن في عاشوراء حضور الحق في تمامه، وكل مواجهة او منازلة عاشورائية تستقي من المنهل الأصيل نسبة من ذلك الحق بحسبها وسعتها الوجودية، ونسبة تمثلها للنهضة الحسينية في مضمونها ومبادئها وأهدافها.
الانتقاد/ العدد1240 ـ 9 تشرين الثاني/نوفمبر2007
أرشيف موقع العهد الإخباري من 1999-2018