ارشيف من : 2005-2008

الفاضل اللنكراني : سند الثورة والإمام

الفاضل اللنكراني : سند الثورة والإمام

هكذا هم مراجعنا العظام، ركائز الدين وعمدة المسلمين في التعرف على دينهم ودنياهم، بما يحبه الله ويرضاه. ويبقى كل واحداً منهم مصباحاً ينير لنا الدرب.. حتى آخر لحظات حياته الشريفة، ومنهم شيخنا الراحل محمد الفاضل اللنكراني، والذي بفقده فقد العالم الإسلامي كبيراً من مفاخر الدوحة العلمائية، ومرجعاً فقيهاً عالماً عابداً مجاهداً، سر قلبه الشريف في اواخر ايامه بانتصار المقاومة في لبنان، وكان يدعو لها ولسيدها، ويقول ما حصل معها هو معجزة، لأنه بمقاييس أهل الدنيا ما كنتم تملكون شيئا مقابل عدو بهذه القدرة، ولكن الله نصركم.
نقرأ في هذه العجالة بعضاً من سيرته، لنتعلم السير والسلوك في دروب من اختار الحق، فما زحزحت قدمه عن الطريق.
انتقلت عائلة شيخنا الراحل، من إحدى قرى القفقاز الى مدينة مشهد المقدّسة حيث درس والده في الحوزة العلمية لمدينة زنجان ، ثمّ هاجر بعائلته إلى مدينة قم المقدّسة بعد سنة من قيام آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري ـ رضوان الله تعالى عليه ـ بتأسيس حوزتها العلمية المباركة ; ليواصل فيها نشاطه العلمي فقهيّاً واُستاذاً.
في سنة 1350هـ  ولد لهذه الاسرة العلمية ولد حمل اسم النبي الاعظم تبركاً فكان محمد الفاضل تحت ظلّ رعاية والده الكريم، الذي راح يوليه نما وترعرع  باهتماماً خاصّاً وعنايةً متميّزةً  من والده حتّى أنهى دراسته الابتدائية ، وكان متفوّقاً في جميع مراحلهاعلى مستوى طلبة مدينة قم المقدّسة.
شدته الحوزة مبكراً فغادر دراسته الأكاديمية بعد أن أنهى الدراسة الابتدائية، فالتحق بها بادئاً بذلك مشواره العلمي، وهو في السنة الثالثة عشرة من عمره المبارك، وكان فيها نموذجاً رائعاً للتلميذ المنظّم في تفكيره; المواظب في عمله.
صفات كثيرة ميزت شيخنا الراحل، عرف سماحته بدقّته وجديّته وحبّه لدرسه، بشكل يتناسب مع ما اتسمت به ذهنيته من قدرة فائقة على منهجة أعماله الحوزوية ونشاطاته الفكرية ومتابعاته العلمية; ممّا جعله أكثر تفوّقاً من غيره وأسرع اجتيازاً لمراحل دراسته رغم ما اتصفت به من صعوبة ومشقّة، فأنجزها بصورة كاملة دقيقة، مستوعباً جميع موادها، متقناً بحوثها ، فكان حقّاً طالباً منتفعاً واُستاذاً نافعاً.
تزامل في دراسته الحوزوية مع المرحوم الشهيد آية الله الحاج السيّد مصطفى الخميني; النجل الأكبر لسماحة الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف، حيث كانت تربطهما علاقة متينة وصداقة حميمة. وطالما تذاكرا دروسهما الحوزوية وتباحثا فيها سنين طويلة.
ويقول سماحته عن هذه الرفقة المباركة:
«كان لوجود هذا الصديق العزيز أثر قوي راح يشدّني بالسبيل الذي سلكتُه، فقد كنّا صديقين متعاونين نتذاكر دروسنا ونتباحث فيها».
تميز سماحته بقوّة الذاكرة وبالصبر، وهما عاملان يحتاج إليهما كلّ طالب يبتغي الترقّي في سُلَّم العلم والمعرفة. فراح يستوعب علوم الحوزة ويكافح صعوبتها ويطوي مراحلها بدقّة وبوقت قياسي، وغدا يرتقي مدارج العلم بأقصر وقت وبصبر واستيعاب أدهش أساتذته وزملاءَه ومحبّيه.
درس شيخنا الراحل على كبار العلماء، ومن بينهم:
ـ سماحة آية الله العظمى السيّد البروجردي قدّس سرّه الشريف الذي قال عن تليمذه النجيب بعد أن رأى تقريرات درسه وهو يدوّنها : «لم أكن أتصوّر أنّ في هذا السنّ الصغير من يفهم رموز وخصوصيات دروسنا، ويكتبها بعبارات عربية جيّدة ومفهومة».
ـ  سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني قدّس سرّه الشريف.
ما إن بدأ السيّد الإمام الخميني(قدس سره)، حيث قضى شيخنا الراحل سبع سنوات بين يدي السيّد الإمام منهياً دورة أصول كاملة في مباحث الألفاظ والمباحث العقلية. كما كان يحضر دورة فقهية أُخرى كان السيّد الإمام يعقدها بجنب درسه الأُصولي.
ـ  سماحة آية الله العلاّمة السيّد محمّد حسين الطباطبائي قدّس سرّه الشريف، فدرس عند سماحته (قدس سره) التفسير والفلسفة والحكمة، بالاضافة الى  قسماً من منظومة السبزواري وأسفار الملاّ  صدرا الشيرازي، إضافةً إلى مشاركته في حلقات ومباحث أخرى عقائدية وأخلاقية.
ومع مواظبته تحصيل دروسه عند هؤلاء الكبار من العلماء وعند غيرهم في الحوزة العلمية كان مشغولاً أيضاً بالتدريس، ففي ربيعه الخامس عشر كان طالباً متفوّقاً كما كان اُستاذاً جيّداً وهو أمرٌ يندر أن يحصل إلاّ لعدد قليل من علماء الحوزة وفضلائها.
وكان يحضر دروسه قرابة ثمانين تلميذاً من طلبة الحوزة وممّن كانوا في سنّه، حتّى أثار نشاطه العلمي هذا انتباه كثير ممّن يشاهدونه، بل راح درسه يضمّ جمعاً من الشيوخ الذين أكبروا في هذا الشاب العالم فتوّته واستيعابه وقدرته التدريسية المبكرة والمتميّزة.
وما إن بلغ عمره السنة التاسعة عشرة حتّى توسّعت حلقات درسه وتجاوز عددُ حضّارها المئات. وراح سماحته يدرِّس بعد ذلك كفاية الاُصول للمحقّق الخراساني وهو آخر كتب مرحلة السطوح وأعمقها. فقد درّس هذا الكتاب ستّ دورات كاملة كما درّس كتاب المكاسب للمحقّق الأنصاري خمس دورات كاملة .
مؤلّفاته
الشيخ الرحال واحد من أولئك الأفذاذ الذين واصلوا الليل بالنهار مشمّرين عن ساعد الجدّ والمثابرة، وراح يؤدّي زكاة علمه لا للذين يعاصرونه بل للآتين من بعدهم، ويبلّغ بذلك رسالته التي هي رسالة أهل بيت النبوّة والطهارة(عليهم السلام) ، كعالم كبير وفقيه ضليع وهو ما يزال يدرّس ويعلِّم ويكتب ويُؤلِّف ويحقِّق بقلم مبين وبيان ناصع يستفيد منه الجميع ، وهو ما كان وما زال حريصاً عليه ، وغدت آثاره تتلقّفها الأيدي خاصّة طلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية; لتستفيد منها وممّا حوته من آرائه القيّمة ومبانيه المتينة في الفقه والاُصول . . . حتّى بلغت كتبه دام ظلّه 40 مجلّداً أو تزيد، مملوءة بفكر رصين وعلم غزير عبر بيان ناصع واضح جميل.
جهاده السياسي برفقة الإمام
فمنذ أن بدأ سماحة السيّد الإمام الخميني ـ رضوان الله تعالى عليه ـ في عصرنا هذا يعدّ عدّته ويهيئ نفسه وأتباعه ومريديه لمقاومة الحثالة الفاسدة المتسلّطة على رقاب الناس، ورفع الظلم والحيف عن مظلومي هذه الأمّة المسلمة المجاهدة، وقطع أيدي الظالمين عن موارد الشعب المضطهد، ومقاومة الكفر العالمي المستبد والذي كان نظام الشاه المقبور جزءاً منه، وسائراً في دائرته وتابعاً ذليلاً لمؤسّساته ومخطّطاته الإجرامية. راح سماحة الشيخ محمّد الفاضل وهو من تلاميذ السيّد الإمام المتقدّمين ومن مريديه الحقيقيين والمتميّزين، يتابع اُستاذه في كلّ خطواته الجهادية إيماناً منه بصحّة موقفه وصواب متبنياته ورصانة آرائه الصلبة والواعية ، التي كانت منبثقة عن الوظيفة الشرعية الملقاة على عاتقه رضوان الله تعالى عليه.
فغدا سماحة الشيخ في طليعة الذين واكبوه في جهاده ذلك ومن المعتقدين الثابتين على نهجه(قدس سره). وواصل جهاده المرير ، سواء كان بشكل فردي أو منضمّـاً إلى اخوته الآخرين مشكِّلين بذلك جماعات ضغط على النظام، فكان من أعضاء جماعة المدرسين، وله فعاليات وأنشطة كثيرة أثارت حفيظة النظام.
ولمّا أمر النظام جلاوزته بإلقاء القبض على السيّد الإمام ، وبعد أن تمّ ذلك زجّ به في السجن ريثما تتمّ محاكمته ، أصدر اثناعشر من علماء الحوزة وأساتذتها ـ وكان الشيخ الفاضل واحداً منهم ـ بياناً يطالبون فيه رأس النظام بإطلاق سراح السيّد الإمام ، وعدم محاكمته ; لأنّه من المجتهدين الكبار، والدستور لا يجيز محاكمة من يصل من العلماء إلى هذه الرتبة .
ولمّا أحسَّ النظام بما يشكِّله وجود سماحته المبارك من خطر ألقى عليه القبض ثمّ أصدر أمره بتسييره ونفيه إلى مكان يعدّ من أسوء الأماكن في إيران، إلى منطقة «بندر  لنگه» حيث حرارتها المرتفعة جدّاً، فقضى في هذا المكان النائي أربعة أشهر.
يقول عنها سماحته: «إنّ هذه الأربعة أشهر كانت بقدر أربعين سنة لمرارتها وشدّة محنتها».
ثمّ نقله إلى مدينة يزد بعيداً أيضاً عن مدينة قم المقدّسة وحوزتها العلمية التي عشقها ، فقضى فيها سنتين ونصف السنة من عمره الشريف متحمّلاً ما فيها من آلام ومعاناة.
ومع كلّ ما فيها من مرارة وأذى إلاّ أنّ سماحته أشغل نفسه بالتحقيق والبحث العلمي وفي الكتابة مستفيداً من هذه الخلوة التي فرضت عليه إجباراً. هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى استغلّ وجوده في يزد لبناء علاقة متينة سرّاً مع شهيد المحراب آية الله الصدوقي ، وراحا مع ثلّة مؤمنة يهيئون الناس ويمهِّدون الطريق للثورة على النظام. ولجهودهما هذه وللوعي العميق الذي ساد مدينة يزد وعمق التزام أهلها بدينهم ، كان أهل يزد من السبّاقين الذين لبّوا نداء الثورة وقدّموا كثيراً من الشهداء ، حيث كانوا يقاتلون النظام وجنوده بأيد خالية ويواجهون أسلحته بقلوب وصدور مليئة بالإيمان وحبّ الشهادة ، حتّى حقّق الله لهم وللشعب الإيراني المسلم النصر وإقامة حكومة إسلامية طالما حلم بها الجميع.
من أبرز مواقفه ما اطلقه في موضوع سلمان رشدي الذي منحته ملكة برطانيا قبل ايام لقب فارس، فقد علق:
(سلمان رشدي ذلك الذي تهجّم على المقدّسات الإسلاميّة بكلامه القبيح، من خلال تأليفه كتاباً جعل كل من يطالع ذلك الكتاب من المسلمين يحسّ بجراح عميقة وعذاب روحي. فأنا عندما طالعت بعض المقاطع من خلاصة ذلك الكتاب أحسست بالامتعاض حتّى أنّ نفسي لم تطاوعني في إكمال مطالعة مطالبه. فليست الإهانة للقرآن بمسألة هيّنة وليست الإهانة الموجهة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بمسألة هيّنة، توجيه الإهانة لسائر الأنبياء. نسبة الزنا لجبرائيل مع إحدى نساء النبي (صلى الله عليه وآله) أليست هذه إهانات؟).
(أنتم تعلمون أنّ في كلّ قصّة لم يتم التقصير فيها فإنّ النجاح يكون حليفها. وفي قصة سلمان رشدي أيضاً فعندما قال الإمام مطلباً وأيّده على ذلك الباقون كانت نتائجه واضحة.
اُنظروا في أيّ مصيبة يعيش سلمان رشدي. برأيّ أنّه يتمنّى الموت مائة مرّة في اليوم. ونحن لو قصّرنا في هذه المسألة لوجدنا المئات من أمثال سلمان رشدي لذلك نحن قد أحسنّا صنعاً).
بعد ذلك في سنة 1377 هـ ش في أثناء مباحثات وزراء خارجية إيران وبريطانيا في نيويورك. اعلنت الحكومة البريطانية أنّ الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة قبلت الغاء حكم اعدام سلمان رشدي. سماحة آية الله العظمى الفاضل اللنكراني من جانبه أصدر بياناً مهمّاً أحبط فيه هذه المؤامرة. فسماحته في هذا البيان صرّح قائلاً: (هذا الحكم لايمكن نقضه بأي وجه من الوجوه. وأنّ حكومة الجمهوريّة الإسلاميّة قد لاتباشر حكم الإعدام بنفسها ولكن هي في الصفّ الأوّل للمدافعين عن تنفيذ هذا الحكم.
النصّ الكامل لبيان سماحته كما يلي:
(إثر انتشار بعض الأخبار عن سلمان رشدي اطّلعت على أنّ بلاد الكفر وخصوصاً بريطانياً تتوهّم في إلغاء الحكم التاريخي للإمام الخميني (رضي الله عنه) المتضمن لحكم إعدام المرتدّ سلمان رشدي، فأنا أعلن لكم بأنّ هذا الحكم لايمكن نقضه أو تغييره بأيّ وجه من الوجوه. وعلى كافّة المسلمين في العالم تنفيذ هذا الواجب . وفي هذا السياق قد لاتباشر حكومة الجمهورية الإسلاميّة حكم الإعدام بنفسها ولكن هي في الصفّ الأوّل للمدافعين عن تنفيذ هذه الفتوى، وتعلمون أنّ الحوزات العلميّة والشعب الإيراني الثوري الذي قلبه ينبض مع الإمام مائة في المائة لا يسمح أبداً أن تتلاعب أيدي السياسة الخارجية في هذه الفتوى. ومن المعلوم أنّ كتاب سلمان رشدي هو كتاب الحكومة البريطانيّة) .
وهكذا فإنّ هذا الشخص المنبوذ في شرح حاله يعترف بأنّ جميع فصول ومطالب هذا الكتاب كان بتوجيه من الحكومة البريطانيّة. وهذه الدولة صاحبة التاريخ الأسود في مواجهتها للإسلام. ولهذا نجد قد درّبت المئات من أمثال سلمان رشدي أو من هو أشدّ وأشذّ منه. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ النظام المقدّس للجمهوريّة الإسلاميّة... إن شاء الله تعالى ".
انصرف سماحته االى متابعة الدرس والتدريس، إلى أن انتقل الى جوار ربه راضيا مرضيا.. قرير العين بالجمهورية الاسلامية التي تحققت وشكلت وتشكل السند والحامي والمدافع عن كل مظلوم في هذا العالم.


2007-06-19