ارشيف من : 2005-2008

أميركا ومؤشرات التخلي عن ساكاشفيلي.. برغم خدماته!

أميركا ومؤشرات التخلي عن ساكاشفيلي.. برغم خدماته!

في كانون الثاني/ يناير 2004 حقق ميخائيل ساكاشفيلي الحقوقي الشاب المتخرج من الجامعات الأميركية، الذي قضى شطراً مهماً من حياته في أميركا، حيث اعتنق الالتزام المطلق بعقائد الليبرالية الاقتصادية والسياسية، حقق فوزاً انتخابياً حمله إلى قمة السلطة بـ(96.3) من أصوات المقترعين. فوز ساحق لا يتحقق في العادة إلا في السياقات غير المعروفة بتقاليدها الديمقراطية العريقة. كانت جورجيا يومها منهكة بسنوات من الحروب الداخلية التي أعقبت الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي المنهار، ولكن أيضاً بمشكلات اقتصادية واجتماعية متزايدة تراكمت منذ الاستقلال ولم يتمكن الرئيس المخضرم السابق إدوارد شيفرنادزة الذي حكم جورجيا السوفياتية حوالى عشرين عاماً قبل أن يعود إلى حكمها عام 1995، من حلها برغم التأييد الغربي والدعم الملموس من قبل وصفات صندوق النقد الدولي.

وإذا كانت الثورة الوردية قد أطاحت بحكم شيفرنادزة وحملت ساكاشفيلي إلى قمة السلطة، فإنها قد جددت أيضاً الحلم الذي ساد في جميع بلدان الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية السابقة، بأن تجد جورجيا في الرأسمالية والغرب الترياق الشافي من جميع الأمراض والمشكلات. وربما تكون ألمعية ساكاشفيلي وأفكاره الليبرالية وحماسه الجذري للانضمام إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي هي ما يفسر ما حصل عليه من تأييد شعبي كاسح ومتلهف إلى جني ثمار الدخول إلى جنة الرأسمالية. ومع ذلك وبرغم مرور أكثر من أربع سنوات على الثورة الوردية، فإن ساكاشفيلي يعيش الآن وضعاً مشابهاً لوضع شيفرنادزه: هنالك من جهة استياء شعبي في ظل ما تسميه المعارضة بـ"الحكومة الفاسدة والمتسلطة"، وفي ظل فشل السياسات الجديدة في إيجاد حل لمشكلات جورجيا المتمثلة بتعمق الخلافات الداخلية مع مقاطعتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وبالتوتر الدائم في العلاقات مع روسيا، وهو التوتر الذي تصاعد مع التغلغل العسكري الأميركي في جورجيا ابتداءً من العام 2002, وأخيراً بتفاقم مشكلات الفساد والفقر.. وهنالك من جهة أخرى حرج غربي وأميركي إزاء تردي الوضع في جورجيا، خصوصاً أن نظام ساكاشفيلي يقدم مثالا يُحتذى لجهة ما يشاع عن التجربة الديمقراطية والتنموية التي يقودها في العالم السوفياتي السابق، بعكس بعض الأنظمة التي تقدم على أنها ذات توجهات تسلطية من النوع السائد في روسيا اليوم، على ما يقوله الغربيون. والسؤال المطروح هو: هل ينتهي ساكاشفيلي كما انتهى سلفه شيفرنادزة؟ وهل يتخلى عنه الغربيون كما تخلوا عن شيفرنادزة الذي كانوا يحتضنونه بالقوة التي احتضنوا بها ساكاشفيلي؟
ما يبرر السؤال هو ستة أيام متتالية من التظاهرات الحاشدة خارج مبنى البرلمان في العاصمة تبليسي، والتي طالبت ساكاشفيلي بالتنحي عن الحكم وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة بدلاً من الانتخابات المقررة في أواخر العام المقبل. ردت الحكومة على التظاهرات بأعمال قمع واسعة النطاق توجت بإعلان حالة الطوارئ مدة خمسة عشر يوماً، ربما تكون قابلة للتمديد على ضوء تصريحات قال فيها ساكاشفيلي ان حالة الطوارئ ستستمر وفقاً لتقدير ضرورة ذلك من قبل الحكومة، وإقفال بعض وسائل الإعلام التابعة لقوى المعارضة، وفرض الرقابة على كامل وسائل الإعلام الأخرى، إضافة إلى تجميد حق التجمع والإضراب والتظاهر.
وفي ظل هذه الأوضاع التي كثر فيها الحديث عن قلق الأسرة الدولية إزاء تناسي ساكاشفيلي للمثل الديمقراطية التي نادى بها منذ وصوله إلى السلطة، وصل ماتيو بريزا مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأوروبية والأوروآسيوية إلى تبليسي حيث طلب رفع حالة الطوارئ. كما قامت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بإرسال رئيس البرلمان الأوروبي السابق جوسيبي بوريل، للعمل من أجل الوصول إلى صيغة توافق بين الحكومة والمعارضة. ولم يبد ساكاشفيلي ارتياحاً إزاء هذا الإلحاح الغربي، معلناً أنه يعلم ما هو الأفضل بالنسبة الى جورجيا على المديين القريب والبعيد.. لكنه وافق على رفع حالة الطوارئ في أقرب وقت ممكن وعلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة في الخامس من كانون الثاني/ يناير المقبل. لكن قوى المعارضة تخشى من أن يندرج هذا الإعلان في سياق محاولة من قبل الحكومة للاستفادة من عدم قدرة المعارضة على تنظيم حملتها الانتخابية في ظل حالة الطوارئ والتضييق على وسائل الإعلام.
وقد أثار التدخل الغربي وما رافقه من مؤشرات تدل على فتور واضح في دعم ساكاشفيلي، أثار تساؤلات حول حقيقة النوايا تجاه ذلك الرجل المتفاني في ربط بلاده بالسياسات الغربية. ولعل ملامح الإجابة عن هذه التساؤلات قد بدأت بالظهور مع صعود نجم بادري باتاراكتسيشفيلي الذي رشح نفسه لخلافة ساكاشفيلي في الرئاسة. والمذكور هو ملياردير جمع ثروته في روسيا خلال فترة حكم يلتسين قبل ان يعود إلى جورجيا حيث كان من أشد مؤيدي ساكاشفيلي. لكن خلافات لم تلبث أن نشبت بين الرجلين، ما أدى إلى انتقال باتاراكتسيشفيلي إلى لندن حيث أقام قريباً من المعارض الروسي اليهودي بيريز بيروزوفسكي الذي تربطه به علاقة وثيقة. وهو يسيطر بالمشاركة مع عملاق الإعلام العالمي الصهيوني روبرت مردوخ على إحدى أكبر قنوات التلفزة في جيورجيا. ويقال إنه قد انتقل مؤخراً إلى "إسرائيل"، ووجهت إليه المحكمة العليا في جورجيا تهمة القيام بمحاولة انقلابية أثناء الاضطرابات الأخيرة. ومن المهم أن نشير إلى أن أحزاب المعارضة تبدي تخوفاً من ترشح باتاراكتسيشفيلي بعد التجربتين الفاشلتين اللتين عاشتهما جورجيا في ظل نظامي شيفرنادزة وساكاشفيلي المدعومين من الولايات المتحدة وسائر بلدان الغرب. وعلى هذا يمكن القول في ظل افتقار جورجيا إلى أحزاب وقوى معارضة قادرة على طرح بدائل جدية للنظام الليبرالي الفاشل، إن جورجيا التي جربت منذ استقلالها ثلاثة رؤساء يجمعهم العداء لروسيا والتقارب مع الغرب، قد تجد نفسها مع رئيس رابع قد يكون باتاراكتسيشفيلي بالذات، في وقت بات الناخبون يتصورون فيه أن مجرد وجود زعيم ثري في قمة السلطة كفيل بإشاعة الثراء في بلد يفتك فيه الفقر بعد 17 عاماً من الانتقال إلى جنة الرأسمالية. وفي هذه الظروف يبدو أن ساكاشفيلي قد بدأ يقفد أعصابه، حيث اعتبر أن أحزاب المعارضة تحصل على التمويل من باتاراكتسيشفيلي، صديق مردوخ وبيروزوفسكي، أحد أكبر المعارضين الروس لنظام حكم بوتين، وعلى التسليح والتدريب من قبل القوات الخاصة الروسية، على أساس أن توجيه التهم الجاهزة وغير المنطقية لروسيا من شأنه أن يغير قرار الأميركيين برميه على قارعة الطريق بعد أن فرغوا من استعماله.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1241 ـ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2007

2007-11-16