ارشيف من : 2005-2008
حكايا ينسجها القدر

لم يكد يمضي سوى أيام على شيوع خبر استشهاد ابنها أحمد الذي تناقلته وسائل الاعلام حتى كانت زينب تصرخ من الم التعذيب في معتقل الخيام الذي دخلته بتهمة خطيرة: "إنها والدة الشهيد احمد فضل الله".
لم يثنها كل ما جرى عليها عن حب المقاومة والايمان بها فصبرت وتحملت كل الاذى لإيمانها بأن شهادة ولدها هي وسام شرف على صدرها ولو كره الكارهون.
طويلة كانت تلك السنون العجاف، لكنها مرّت...
وها هو العام 2000 يأتي حاملا وعلى جناحيه أشرعة النصر...
وبمرارة شوق الاحبة وبلهفة الجائع للحرية ركضت زينب من بلدتها عيناتا الى مدخل مدينة بنت جبيل لتكون من اوائل المستقبلين للحرية.
وهناك وتحت قوس النصر العظيم الساطع كان اللقاء... لتعود الطيور الى اعشاشها، ولتفتح زينب ذراعيها بعد طول ابتعاد.
وكأن الايام الجميلة تمضي بخفة ساحر حتى ليخيل اليك أنها لم تكن سوى أيام في سجل هذه العائلة التي حرمت طويلا من ادنى حقوقها: أن تعيش كعائلة.
تموز من كل عام كان يعني لهذه العائلة الكثير، ففيه ذكرى استشهاد أخيهم احمد، وخلال السنوات الست التي اعقبت التحرير كانت العائلة تجتمع سنويا لإحياء ذكرى شهيدها.
تموز عام 2006، يبدأ العدوان الاسرائيلي على لبنان لتكون قرية عيناتا من أبرز القرى المواجهة له. وقتذاك كل العالم شاهد ماذا حل بالعدو الاسرائيلي عند محاولته التقدم للوصول الى ساحة التحرير حيث كانت تدور هناك معارك اسطورية كان ابطالها رجال اعاروا الله جماجمهم ... كان امير فضل الله الابن الثاني لزينب واحدا منهم.
ربما يكون هذا سبب رفض زينب ترك القرية بالرغم من الظروف القاسية وتعرض المنطقة لغارات وقصف عنيف متواصل ومحاولات هجوم اسرائيلية همجية.
كل ذلك لم يثنِ زينب عن قرارها بل جعلها تتمسك اكثر بالبقاء، فكيف تترك اولادها المقاومين وحدهم يواجهون اجتماع كل دول العالم عليهم؟
بادئ الامر استصغرت دورها، فهل ستقاوم برغيف الخبز أم بهذه الأكف المرفوعة إلى السماء، لكن بعد مضي أيام على الحرب شعرت زينب ان دورها ليس هامشيا، فبدعائها حفظ الله المجاهدين وبرغيفها قويت أجسادهم. لقد كانوا يترددون الى منزلها مع ولدها امير الذي كان ينقل لها في كل زيارة اخباراً عن سير المعركة، ما كان يخلق لديها شعورين مختلفين: شعور بالفخر وآخر بالقلق، فهي قد دفعت قبل ذلك ثمنا كبيرا والجرح لمّا يبرد بعد، فهل يا ترى تتحمل فراق ولدها امير الذي لازمها طوال السنوات الست الاخيرة حيث لم تسمع خلالها منه الا طيب القول ولم ترَ الا جميل الفعل؟
كل هذه الافكار كانت تخطر على قلبها فتحاول تخفيف سوداويتها عبر إشغال نفسها برش الطحين الابيض على "عَدَّة العجين" التي ستقوم بخبزها ليأتي المقاومون لأخذها.
ووسط كل تلك الظروف لم تنس زينب موعد الذكرى السنوية لاستشهاد أحمد، ففي يوم ذكراه جلست تتأمل حال الموجودين معها في المكان الذي لجأت اليه، بعضهم يصلي وبعضهم نائم... ابنتها زهراء العروس ابنة السبعة عشر عاما كانت تجلس في زاوية الغرفة تمسك بيدها ورقة وقلما وتخط بعض الكلمات، اما الطفل ابن الثلاث سنوات خضر ابن ولدها امير فكان يبحث عن بعض الطمأنينة في حجر والدته المرتعشة.
ما حصل أن هذا المشهد كان المشهد الاخير ليختتم القدر هذه الرواية على طريقته...
فبعد ان انقشع الغبار برز ركام جثم على اشلاء كل الموجودين في المنزل بعد ان قضوا بصاروخ ذكي لعدو لئيم لم يسمح حتى بانتشال الجثث، ولتكون حصيلة المجزرة اكثر من عشرين شهيدا كانت زينب على رأسهم والى جانبها رقدت ابنتها زهراء وفي جيبها تلك الورقة التي لم تكن سوى وصية من قد استشرف الموت... أما الطفل خضر فيبدو انه قد غاب في حضن والدته بعد ان ملّ من طلب الأمان...
في نفس ذلك اليوم كان امير يواجه أصعب لحظات المعركة بعد ان توجه مئات من جنود النخبة الاسرائيليين لتطويق المنطقة في محاولة للسيطرة على البلدة ذات التلال الاستراتيجية التي لقنت العدو درسا جعل احد ضباطه يهرب من ارض المعركة غير عابئ باستغاثات جنوده قائلا لهم ليأت حالوتس ويَقُد المعركة عني.
وهناك في كرم الزيتون، حيث اعتقد العدو ان الشجر ايضا يقاتله، استشهد أمير ويده على زناد سلاحه الذي بقي معه الى حين سحب جثمانه.
حتى الآن لم يدرِ أحد من قد نال الشهادة قبل الاخر... أهو امير أم والدته وعائلته... لكن المؤكد ان العائلة قد كانت بالفعل على موعد حدده القدر لترتفع كل العائلة شهيدة في يوم ذكرى استشهاد أحمد، ولتنال بذلك شرف المشاركة في كل ميادين الجهاد من التهجير إلى الأسر إلى المقاومة، ولتتوج مسيرتها بالشهادة...
حياة الرهاوي
الانتقاد/ العدد1242 ـ 23 تشرين الثاني/نوفمبر2007