ارشيف من : 2005-2008

بنغلادش: تفصيل من تفاصيل "الفوضى الطبيعية البناءة"!

بنغلادش: تفصيل من تفاصيل "الفوضى الطبيعية البناءة"!

أوروبا لا تتعرض فقط للغزو من قبل المهاجرين القادمين من العالم الثالث، بل أيضاً من تلك الحشرات السامّة المسماة العناكب. فقد بينت دراسة أجريت مؤخراً في جامعة بيرن السويسرية (راجع الضجة التي أحدثها في سويسرا ـ مؤخراً أيضاً ـ ذلك الرسم الكاريكاتوري عن الخروف الأسود الذي يريد افتراس الخراف البيضاء)، بينت أن 90 نوعاً على الأقل من العناكب القادمة من الجنوب قد اجتاحت أوروبا خلال الـ150 عاماً المنصرمة، وأن هذه العناكب أكبر حجماً وأشد قدرة على التكيف من العناكب الأوروبية. أما سبب الظاهرة فهو أولاً البضائع التي تنتقل معها العناكب القادمة من الجنوب، وثانياً الانحباس الحراري. ما يعني في نهاية المطاف على ما تتوخاه حملات التعبئة النفسية "المتعوب" عليها علمياً في الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية، أن قلة الحيلة أمام الانحباس الحراري لا يجب أن تحول دون التصدي لآفات خطيرة أخرى يظل أمر مكافحتها أيسر بكثير من التصدي لآفة الانحباس الحراري. والخبر أوردته وكالات الأنباء الغربية بين تلافيف التقارير التي تحدثت عن إعصار "سيدر" في بنغلادش.
لكن ذلك لا يعني إهمال العمل من أجل التصدي لتلك الآفة. ففي الثالث من كانون الأول/ ديسمبر المقبل سينعقد في منتجع بالي وبإشراف الأمم المتحدة، ذلك المؤتمر العالمي الموعود الذي سينظر في ما ينبغي القيام به عالمياً ـ أي عبر إفساح المجال أمام الخروق من قبل هذا البلد الكبير أو ذاك، في ظل انعدام التوافق العام ـ بعد انتهاء صلاحية بروتوكولات كيوتو في العام 2012. والمعروف أن بروتوكولات كيوتو التي أسهمت في مفاقمة الكارثة البيئية لكثرة ما تطلبته خلال السنوات القادمة من تنقلات الخبراء والمسؤولين وأنشطتهم المختلفة، قد فشلت على هزال الحلول التي قدمتها لمعالجة المشكلة المناخية، بسبب الرفض الأميركي الديمقراطي قبل الجمهوري، لكل إجراء من شأنه أن يضر بالاقتصاد الأميركي وبنمط عيش الأميركيين، الذي بات في الواقع نمطاً سائداً على المستوى العالمي، في ظل الإقبال البشري الكثيف على مسايرة ركب الاستهلاك العصري. والمتوقع أن بروتوكولات بالي ستأخذ موقعها في التاريخ إلى جانب بروتوكولات كيوتو.
 لكن هنالك من يعمل بدأب لإنجاح مؤتمر بالي. فبان كي مون قام شخصياً برحلة إلى القطب الجنوبي حيث تأكد من فداحة الخطب المناخي.. ومجموعة خبراء حكوميين مكونة من آلاف المختصين عاكفون منذ سنوات بأجور وتكاليف باهظة، على دراسة المشكلة البيئية، وقد قدموا مؤخراً أمام مؤتمر عُقد في فالانسيا الإسبانية أمام مندوبين من 130 بلداً، قدموا تقريرهم الرابع المكون من 3000 صفحة، والذي ينذر بعواقب كارثية ستحل بالعالم مع حلول العام 2100.
 ما زال في الوقت متسع!
المؤتمر المذكور تزامن انعقاده مع الهجوم الذي قام به الإعصار "سيدر" على بنغلادش، أي قبل 93 عاماً على زمن الكوارث الموعودة. والهجوم نفسه سبقه على بنغلادش نفسها هجومان: إعصار العام 1970 الذي أوقع نصف مليون قتيل، والمد البحري الذي حدث عام 1991 وأوقع 140 ألف قتيل. وقبل سيدر حفلت السنوات القليلة الماضية بما لا يُحصى من الأعاصير وموجات الحر والحرائق والفيضانات التي لم ينج منها مكان في العالم، والتي أزهقت أرواح الملايين ودمرت ما دمرت من مقومات العيش. وكل ذلك يحدث الآن وفي الأمس القريب، أي قبل قرن من العواقب الكارثية التي ستحل بالعالم مع حلول القرن الثاني والعشرين. شكل آخر من أشكال التخدير الدولي التي تشنها حملات التعبئة النفسية "المتعوب" عليها علمياً في الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية، بهدف إفساح المزيد من المجال أمام الكارثة البيئية لتؤتي أكلها في تدمير أجزاء من العالم غير مرغوب في وجودها.
نوع من "الفوضى البناءة الطبيعية" الضرورية لبناء عالم الغد بالشكل الذي يتصوره أولئك الذين يعدون أنفسهم لركوب الفلك الجديد الذي سيحط بهم بعد الطوفان العالمي الجديد، على "آرارات" جديدة.
تقرير مجموعة الخبراء الحكوميين في فالنسيا تحدث بصيغة إيحائية واضحة عن أن نصف الـ4 مليارات نسمة الذين يعيشون في آسيا (الحديث أصبح نادراً عن أفريقيا السوداء في ظل الاطمئنان الدولي إلى فنائها الوشيك المحتوم بفعل سياسات نشر الإيدز والإفقار المبرمج في ظل الحكومات والجمعيات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني)، عن أن نصف هؤلاء إنما يعيشون على سواحل المحيطات، ويتعرضون بالتالي لهلاك من النوع الذي يضرب بنغلادش حالياً. والكلام يأخذ بالنسبة الى الأذهان التي يفعل فيها تشريط حملات التعبئة النفسية، شكل "البشارة" المشابه لأشكال "التبشير" التي تضطلع بها عشرات المحطات التلفزيونية الأميركية التي يديرها المسيحيون المتصهينون، والتي تنتشي يومياً من خلال عرض الأفلام التي لا تفعل غير تقديم الصور عن الكوارث الطبيعية المهولة، الحقيقية والمتخيلة، والتي تضرب شعوباً وقبائل كلها من "الغوييم".
 الصيغة الإيحائية الواضحة برزت في تقرير الخبراء عند الحديث عن الانتفاخ الديموغرافي في آسيا، وعن المشاكل المناخية التي يتسبب بها الإقبال الآسيوي الشديد على إنتاج زيت النخيل، وعلى زراعة الأرز التي تحتاج إلى كميات كبيرة من الماء في هذا الزمن الذي يتحول فيه الماء إلى "ذهب أزرق"! وبرزت أيضاً في الإشارة إلى أن بنغلادش هي بلد "إسلامي علماني" سكانه 144 مليوناً نصفهم يعيشون بأقل من دولار يومياً للفرد الواحد، بالتوازي مع التأكيدات التي "تبشر" بأن الكوارث البيئية لا تكاد تضرب غير البلدان الفقيرة!
البلدان الغنية وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، خفت بالطبع إلى القيام بواجبها الإنساني تجاه بنغلادش، فوعدت بإرسال سلع بقيمة مليوني دولار! وعجلت بإرسال سفينتين حربيتين كانتا تتجولان "لأسباب إنسانية!" أثناء الإعصار على مقربة من سواحل بنغلادش. والأوروبيون أيضاً وعدوا بمساعدات.. منها بالتأكيد مساعدات شبيهة بتلك التي قُدمت لإندونيسيا وغيرها من البلدان المجاورة لبنغلادش عندما ضربها التسونامي (مساعدات هي في العمق استثمارات متعددة الوجوه في الكوارث)، ومنها ما هو شبيه بالمساعدات التي تقدم لدارفور وتشاد (الاستثمار في المادة البشرية العديمة الثمن).
بنغلادش: ألوف الجثث البشرية وعشرات الألوف من الأبقار النافقة تطفو على المياه. كثيرون يموتون من الجوع والعطش والأوبئة في المناطق المعزولة، ومئات الألوف من البشر مهددون بموت مشابه في المناطق نفسها. وآبار المياه العذبة امتلأت بالمياه المرة القادمة من المحيط.. وأعاصير بدرجة أقل تضرب اليونان وغينيا وخليج المكسيك.. وجفاف وتصحر وحرائق وذوبان جبال الجليد وارتفاع أسطح المحيطات.. والسؤال بعد كل ما حل ويحل بعالم اليوم بفعل الكارثة المناخية هو: كيف سيكون شكل العالم عام 2100؟  شبيه بلا شك في مخيلة من يحتضنون الكارثة البيئية ويعملون على مفاقمتها (طالبوا قمة الأوبك بتزويد أسواقهم بالمزيد من النفط لتحقيق المزيد من الكوارث)، بما كان عليه العالم يوم حط الفلك على قمة "آرارات". أما الفلك الجديد فلا شك في أنه في مخيلتهم، سفينة فضاء عملاقة فيها أزواج مختارة مصطفاة تنزل على قمة العالم لتحويله إلى فردوس أرضي بديل عن الفردوس الموعود، بعد أن يكون قد نظف تماماً من هذا الهباب من الأجناس والأعراق غير المؤصلة!
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1242 ـ 23 تشرين الثاني/نوفمبر2007

2007-11-23