ارشيف من : 2005-2008
مشكلة كركوك.. وخيارات الحسم العقيمة

بغداد ـ عادل الجبوري
يبدو ان ما كان يخشاه معظم ـ إن لم يكن كل ـ الفرقاء السياسيين العراقيين من تأزم الأمور عند طرح قضية كركوك على بساط البحث والنقاش، قد واجهوه.. فالمادة 140 من الدستور العراقي التي شرع مجلس النواب العراقي ببحثها الأسبوع الماضي كشفت عن عمق التقاطعات وحجم الهوة لا بين الفرقاء فحسب، بل وبين الحلفاء كذلك.
ويمكن القول ان قضية كركوك والمادة 140 رسمت خريطة أخرى للاصطفافات السياسية بدت وكأنها لا تمت بأي صلة الى عموم الواقع السياسي القائم. فالتوافقات بين قوى وكيانات وتيارات سياسية مختلفة حول حزمة من القضايا نجدها تغيب تماما مع قضية مثل قضية كركوك. ومن دون شك فإنه حتى في عهد نظام صدام كان الجميع ـ والعرب السنة والشيعة ـ يدركون ان ملف كركوك الشائك والمعقد والخاضع لمعادلات داخلية وخارجية حساس وخطير، وسيكون حاضرا طوال الوقت كعامل معرقل امام الوصول الى صيغة شمولية مناسبة للمشاركة في الحكم.
وبات الامر بعد التاسع من نيسان/ ابريل من عام 2003 اكثر حساسية وخطورة، لأن كل الاطراف وجدت نفسها في قلب المشكلة، او بتعبير آخر هي أرادت ان تغيب عن المشهد حتى لا يصار الى عقد صفقات سياسية من أي نوع لا تكون هي رقما فيها، وبالتالي تضيع حقوقها المفترضة او تلك التي ترى هي انها حقوق لها.
من هنا لم يكن غريبا ان يشار في الفقرة (ج) من المادة الثالثة والخمسين من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (الدستور المؤقت)، الى انه "يحق للمحافظات خارج اقليم كردستان ـ ما عدا بغداد وكركوك ـ تشكيل اقاليم في ما بينها".
ولكن يبدو ان الضغوط الكردية وعناصر القوة الآنية التي يمتلكها الاكراد العراقيون، كانت كفيلة بإلغاء تلك العبارة من مشروع الدستور الدائم التي جرى التصويت عليه باستفتاء شعبي عام في الخامس عشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2005. فالاكراد حرصوا على التشبث بالمادة 58 من قانون الدولة العراقية، وتثبيتها في الدستور الدائم مع تعديلات وإضافات برقم 140، حيث تنص تلك المادة على انه "تتولى السلطة التنفيذية اتخاذ الخطوات اللازمة لاستكمال تنفيذ متطلبات المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية بكل فقراتها".
وكذلك "المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية, والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية, تمتد وتستمر الى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور, على ان تنجز كاملة (التطبيع والاحصاء وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها, لتحديد ارادة مواطنيها)، في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الاول/ ديسمبر ألفين وسبعة".
أي انه وفق الدستور الدائم يفترض ان يجرى الاستفتاء حول مصير كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها خلال فترة الشهر والأيام القليلة المتبقية من العام الجاري.
ومع ان الاكراد يدركون حجم التعقيدات والصعوبات التي تكتنف ملف كركوك، وهم على قناعة شبه تامة بأن حسم ذلك الملف لن يتم في نهاية العام الجاري، بل ولا حتى في نهاية العام المقبل، فإنهم لا يتوقفون عن الحديث عن المهلة الدستورية بشأن الاستفتاء، والمطالبة بتقرير مصير تلك المدينة التي لا يمكن اثبات ان الاكراد يشكلون أغلبية فيها.
ومن هذه الصعوبات والتعقيدات ان موضوع كركوك مرتبط بحسب ما يشير الدستور بكل المناطق المتنازع عليها، وعملية الحسم لها ينبغي مثلما يقول سياسيون من تيارات مختلفة ان تتم بحزمة واحدة. وما تجدر الاشارة اليه ان بعض وسائل الاعلام العراقية والعربية طرحت مؤخرا مسألة الخلافات بين مدينتي كربلاء والانبار حول ترسيم الحدود الادارية بينهما، التي تلاعب بها النظام السابق لاعتبارات طائفية، اذ اعتبرها رئيس كتلة التحالف الكردستاني في البرلمان العراقي والقيادي في حزب جلال الطالباني وراء تأخر تسوية ملف كركوك.
والامر الثاني ان الامم المتحدة المعنية بالاشراف على اي عملية استفتاء او انتخابات في العراق، أعلنت اكثر من مرة بكل وضوح وصراحة انها غير مهيأة لانجاز عملية صعبة ومعقدة وحساسة من هذا القبيل في غضون فترة زمنية قصيرة. وتؤكد انها تحتاج الى اشهر لتهيئة الارض المناسبة للاستفتاء، ناهيك عن انه لا بد من ان يسبق هذه العملية عملية احصاء سكاني دقيق، من المفترض ان تكون لجنة تطبيق المادة 140 معنية به. وعملية الاحصاء السكاني العام تحتاج اول ما تحتاج الى اوضاع امنية مستقرة. والشيء نفسه يصدق على المفوضية العليا المستقلة للانتخابات التي ما زالت حتى الآن تعاني من الارتباكات وتطرح عليها ملاحظات ومؤاخذات كثيرة.
والامر الثالث ان الولايات المتحدة الاميركية ـ وهي اللاعب الرئيسي في العراق حاليا ـ تسعى الى وضع ملف كركوك على الرف، او بأدنى تقدير لابقائه يدور في حلقة مفرغة في المرحلة الراهنة، لأنها لا تريد اثارة حفيظة تركيا حليفتها الرئيسية في المنطقة، التي تعد كركوك خطا احمر لا ينبغي للأكراد العراقيين تجاوزه. ولعل الازمة التي أثيرت قبل عدة أسابيع حول حزب العمال الكردستاني المعارض ونشاطاته في اقليم كردستان العراق، لا تخرج بأي حال من الاحوال عن سياق توقيتات قضية كركوك والمادة 140. وفي الوقت ذاته فقد لا يكون من مصلحة واشنطن التركيز على ملف كركوك الذي من شأنه ان يقحمها في دوامة من المشاكل في العراق هي في غنى عنها.
ومهما يكن من امر، فإن التهديدات التركية كشفت عن هشاشة الوضع الكردي، خاصة أن التحالفات الاستراتيجية مع اطراف سياسية مهمة مثل المجلس الاعلى الاسلامي العراقي ليس بإمكانها التغاضي وتقديم تنازلات للأكراد في ما يتعلق بملف كركوك. ولعل التصريح الذي ادلى به مؤخرا الامين العام لمنظمة بدر هادي العامري يحمل دلالة مهمة، وهو بمثابة رسالة واضحة وتنبيه للأكراد حينما قال من تحت قبة البرلمان العراقي: "ان حسم قضية كركوك بالقوة سيفتح أبواب جهنم".
والعقود النفطية المبرمة بين شركات نفطية أجنبية وحكومة اقليم كردستان لن يكون من ورائها جدوى ما لم يجرِ التنسيق بين حكومة الاقليم والحكومة المركزية في بغداد.
وإذا كان هناك من دعا الى التريث في حسم هذا الملف الخطير في مقابل الدفع الكردي غير الواقعي باتجاه الحسم السريع، فإنه تبقى الرؤية التي طرحها النائب التركماني في البرلمان عباس البياتي وأيده فيها نواب من الائتلاف العراقي الموحد وجبهة التوافق والعراقية والحوار الوطني هي الاقرب الى الواقع، وتتمثل في الابقاء على كركوك اقليما قائما بحد ذاته حالها حال العاصمة بغداد، وهو المضمون نفسه الذي احتواه قانون ادارة الدولة (الدستور المؤقت) ليختفي فيما بعد من سطور الدستور الدائم!
الانتقاد/ العدد1242 ـ 23 تشرين الثاني/نوفمبر2007