ارشيف من : 2005-2008
باكستان: خيارات سيئة

الاضطرابات الحادة ليست جديدة على باكستان التي وُلدت في قلب اضطراب حاد أدى عام 1947 إلى تفكك شبه القارة الهندية وظهور باكستان التي تكونت من جناحين تفصل بينهما آلاف الكيلومترات هما: باكستان الشرقية التي لم تلبث أن انفصلت عن الغربية لتأخذ اسم بنغلادش، في حين احتفظت الغربية باسمها المعتمد منذ العام 1956، أي جمهورية باكستان الإسلامية. ولعل هذا الاسم هو الوحيد الذي لم يتغير في ظل ما لا يُحصى من عمليات تعديل الدساتير وتعليق العمل بها، وتعطيل المؤسسات والانقلابات والإقالات وإعلان الأحكام العرفية وحالات الطوارئ وإصدار القرارات الرئاسية والإعدامات والحروب المزمنة مع الجار الهندي، تلك الحروب التي هدأت رحاها مؤخراً، بينما استمرت النزاعات الداخلية على الحكم، إضافة إلى تواتر الصدامات الطائفية والإثنية.
فإذا بدأنا مع "ذو الفقار علي بوتو" الذي تولى الحكم عام 73 وانتهى مشنوقاً عام 79، بسبب التأميمات والإصلاح الزراعي اللذين أثارا ضده أكثر من قوة داخلية وخارجية، ننتقل إلى تطبيق الشريعة مع ضياء الحق الذي حكم بين العام 79 و88 قبل أن يلقى حتفه في حادث تحطم طائرة، لتخلفه بي نظير بوتو مدة سنتين، قبل إقالة حكومتها لصالح نواز شريف الذي لم يلبث أن أبعد عن الحكم لمصلحتها قبل عودته إليه مجدداً ليطرد منه على يدي قائد جيشه برويز مشرف. في العام 99 الذي لم يلبث أن حاز في انتخابات العام 2002، إضافة إلى منصبه كقائد للجيش، منصب الرئاسة مدة خمس سنوات، بعد أن حصل على 98 % من أصوات المقترعين، لكنه لم يتمكن من ذلك إلا بعد أن أصدر قانوناً يمنع من الترشح كل من سبق له وشغل منصب رئاسة الوزراء أكثر من مرة، أي تحديداً نواز شريف وبي نظير بوتو.
ومع انتهاء ولايته رشح نفسه لولاية جديدة وتمكن من الفوز في 6 تشرين الأول/ أوكتوبر الماضي بفضل الانتخاب غير المباشر من قبل البرلمان المركزي والبرلمانات المناطقية، الأمر الذي احتاج معه إلى موافقة المحكمة العليا على شرعية انتخابه. ولما كان من الأكيد أن المحكمة لن تصدر حكماً مشابهاً لحكم البرلمانات، عمد مشرف إلى إعلان حالة الطوارئ بذريعة مواجهة المتطرفين الإسلاميين الذين كثرت تحركاتهم مؤخراً بين رجال القبائل في المنطقة الشمالية الغربية من البلاد.
وبفضل حالة الطوارئ أبعد مشرّف القضاة المعترضين واستبدل بهم قضاة من أنصاره، وبذلك أصبحت المحكمة في وضع يسمح لها بإلغاء الطعون في شرعية انتخابه. لكن المفترض بباكستان أن تكون دولة ديمقراطية.
وإذا استساغت الديمقراطية عزل كبار القضاة وتعيينهم بفرمانات رئاسية، فإنها لا تنسجم مع حكم البلد من قبل رجل عسكري! لذا قرر مشرف أن يتخلى عن بذلته العسكرية ليرتدي بذلة مدنية، فأوكل قيادة الجيش لأحد جنرالاته المقربين، وبذلك أصبح جاهزاً لأداء القسم والحصول على فترة رئاسية ثانية لا تشوبها أي شائبة من منظوري الديموقراطية والشرعية.
ولكن كيف يستقيم ذلك في ظل حالة الطوارئ وأعمال الاعتقال التي طالت الآلاف من المواطنين خلال الأيام القليلة الماضية، خصوصاً أنها أثارت استياء الأسرة الدولية وجعلت واشنطن ترسل لغرض التوسط احد كبار المبعوثين، وحملت منظومة الكومنولث على تعليق عضوية باكستان فيها؟ كان من الكافي لمشرف أن يتجاوز هذه العقبة بإطلاق سراح أعداد من المعتقلين وبإعطاء وعد برفع حالة الطوارئ، لكن ذلك لم ينهِ المشكلة.
ركنا المعارضة الأساسيان بي نظير بوتو ونواز شريف، وكلاهما سبق له أن تولى رئاسة الوزراء أكثر من مرة، عاد كل من منفاه ليدخل باب الصراع على السلطة من بابه الواسع.
الأوضاع المأزومة في باكستان التي ازدادت تأزماً مع تحول مشرف إلى الحليف رقم واحد للإدارة الأميركية في حربها على الإرهاب، تقتضي تأمين دعم شعبي كاف لنظام مشرف. مراقبون كثيرون يقولون ان الولايات المتحدة رعت مفاوضات طويلة بين مشرف وبوتو التي تتزعم حزب الشعب الباكستاني، وهو أحد أكبر الأحزاب في باكستان، من أجل الاتفاق على صيغة لتقاسم الحكم، وأن بوتو عادت إلى البلاد بعد أن تحقق تقدما ملموسا في تلك المفاوضات. لكن بوتو نجت فور وصولها إلى باكستان في عملية انتحارية قتل وجرح فيها المئات من مؤيديها، وحامت الشبهات حول أحد أجهزة الاستخبارات التابعة للنظام الباكستاني الذي يديره مشرف.
وانتهى الأمر ببوتو إلى وصف مشرف بالدكتاتور وبالدعوة إلى تنحيته، قبل أن تلين من موقفها بعض الشيء بفعل وساطة أميركية، وترشح نفسها للانتخابات التشريعية التي يفترض أن تجري في الثامن من كانون الثاني/ يناير المقبل، متراجعة بذلك عن مقاطعة تلك الانتخابات التي قد تجري في ظل حالة الطوارئ.
نواز شريف من جهته، تربطه عداوة قديمة مع مشرف الذي كان قد استغل فرصة غيابه إلى الخارج واستولى على الحكم بانقلاب عسكري أبيض. ولما كان شريف مقيماً في منفاه في السعودية، فقد طار إليها مشرف قبل أيام في محاولة لحمل المسؤولين فيها على عدم تسهيل عودة شريف إلى باكستان.
لكن المحاولة لم تنجح وعاد شريف بعد أن زودته السعودية بطائرة خاصة وسيارة لا يخترقها الرصاص إلى باكستان، حيث يحظى بتأييد واسع في لاهور. لكنه أكد أنه لا يكن لمشرف أي نوايا ثأرية، ويقال ان جهوداً تبذل من أجل التقريب بين الرجلين، غير أن شريف تعهد بالعمل على إزالة الديكتاتورية ورشح نفسه أيضاً للانتخابات التشريعية التي باتت منذ الآن معركة مشرف المقبلة.
فالرئيس الذي لم يعد جنرالاً يحتاج إلى دعم البرلمان، ولكن الانتخابات قد تجبره حتى في ظل عجز المعارضة عن تشكيل جبهة موحدة، على التعايش الصعب مع المعارضة، ما يعني انسداد الأفق أمام عودة حقيقية إلى الاستقرار الضروري.
من هنا نفهم إصرار مشرف برغم استياء الأسرة الدولة والحليف الأميركي، على إبقاء العمل بقانون الطوارئ إلى ما بعد الانتخابات، على أساس أن إجراءها مستحيل في الظروف العادية.
لكن المجيء ببرلمان بالصورة التي يتمناها مشرف يعني أيضاً استمرار الأزمة. كما يعني استمرارها في حال حصول المعارضة على أكثرية في البرلمان، وفي حال إقدام مشرف على حل البرلمان كإجراء تسمح به سلطاته الدستورية. وفي هذه الحالة لا يبقى أمام مشرف غير العودة إلى ارتداء بذته العسكرية وحكم البلاد بسطوة أنصاره في قيادات الجيش والمخابرات.
وربما أيضاً نصل إلى النتيجة نفسها فيما لو ألغيت الانتخابات لسبب أو لآخر: ألم يصرح جورج بولتون مؤخراً أنه لا يحبذ إجراء انتخابات ديمقراطية في باكستان بعد أن تبين أن الانتخابات الديمقراطية في أماكن أخرى قد حملت إلى السلطة جماعات معادية لأميركا؟ مع عدم استثناء إمكانية أن يكون عمر مشرف في السلطة قد شارف على الانتهاء بسبب ما يقال عن دعمه القديم والجديد لبعض فصائل طالبان، أو بسبب اعتقاد البعض أن وصول نظام إسلامي متشدد إلى باكستان النووية من شأنه أن يساعد الرئيس بوش على استعادة شعبيته المفقودة من خلال قرع طبول حرب جديدة وأقل كلفة من الحرب على إيران.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد 1243 ـ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007