ارشيف من : 2005-2008

الحج ومناسك التوحيد

الحج ومناسك التوحيد

د.بلال  نعيم
لقد فرض الله الحج على عباده العاقلين البالغين المستطيعين مرة واحدة في العمر، وهي الى جانب كونها تكليفاً فرصة أتاحها الله سبحانه لعباده لكي يتوبوا ويؤوبوا ويستغفروا ويتداركوا ما فاتهم في عمرهم من سيئات يتضرعون الى الله غفرانها في أخص الامكنة وأعظمها، ومن كرامات يسألون الله نيلها والحظوة بها.
والحج شعيرة من شعائر الاسلام والحفاظ عليها وتعظيمها من تقوى القلوب، وهي مع كونها مناسك ومراسم ظاهرية في الاحرام والطواف والسعي والرجم والوقوف والافاضة، الا ان لها آداباً باطنية تقوم عليها كل حركة ويتضمنها كل منسك من مناسك الحج، وقد وردت الروايات والنصوص الصريحة التي تحكي ادب الحج واعماله، وما يرمز اليه كل فعل او منسك او ركن من اركان الحج.
فالاحرام في الحج كالاحرام في الصلاة، انه الخروج من الدنيا وعالم المادة ورفع اليد عن هذا العالم ورميه وراء الظهر، وهو احرام عن كل ما عدا الله سبحانه وتوجه اليه وحده لا شريك له، والتلبية استجابة الجوارح والجوانح لتلك الدعوة الالهية لنيل الكرامة في ضيافة الله في بيته وحرمه، وهي تتضمن رفض الاستجابة لأي نداء سواه (نداء الاهل، التجارة، المال والبنون،...) والتلبية تتضمن كل معاني التوحيد الافعالي والاسمائي والذاتي (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك)، (فالحمد والنعمة توحيد لله سبحانه في صفاته، والملك توحيد له في افعاله، ولا شريك له توحيد له بذاته).
وللباس الاحرام تجرد من ثياب الدنيا وما يرمز اليها ونزع عن الفطرة ما يعتريها من آثار الارتطام بالتراب والتأثر به، ولباس للطاهر الابيض، الذي يناسب الفطرة في اصالتها وجبلتها وأصل وجودها المرتبط بعالمها الطاهر ومنشئها وخالقها.
والطواف بالاشواط السبعة، محاولة لاختراق الحجب المانعة من رؤية الحق ومشاهدته والحضور بين يديه، فالسماوات السبع التي هي ميدان المعراج هي نفسها اسباب الاحتجاب او الغياب، ليس للحق من الشهادة بل لاهل الحق عن الشهود والوصول، فالطواف حول البيت العتيق والنظر العبادي الى اركانه والحولقة حوله، والدعاء والاستغفار في ارجائه وعند اركانه، ووضع الكف عند الحجر الاسود الذي يأخذ بصمات البيعة لله والاعتراف له بوحدانيته وبفضله، كل ذلك سير تكاملي للعباد السالكين الى الحق بسبر اغوار العوالم العلوية وخرق حجب النور المتراكمة في جنبات هذا البيت النوراني املاً في بلوغ الحق والحقانية.
والسعي بين الصفا والمروة، سعي بقدمي الخوف والرجاء، الخوف من الحق وعدله والرجاء لرحمته وفضله، وتطلع الى الماء المتدفق من جنبات الصخر اليابس والمحل القاحل، اي انه نظر الى رحمة الله وعفوه وكرمه بالرغم من النفوس المقفرة والقلوب المظلمة والعقول الجامدة، والسعي بين الصفا والمروة سير افقي حيث السعي القائم على سبعة اشواط، وهو تتمة سفر السالكين في سيرهم بين الخلق بالحق، بعد سيرهم في طوافهم الحق بالحق.
والرمي للجمرات في منى، تبرؤ عملي من الشيطان الرجيم ووسوسته ومكره وحيله وحبائله وجنده وحاشيته، وهو تجسيد ذلك التبرؤ برمي الحجر الذي هو من أخس الموجودات على الجمرات التي ترمز لأخس المخلوقات، والتأكيد على التوحيد لله والتبرؤ من الشيطان ومن اتباعه واشياعه، وان الرمي بالاحجار السبعة على ديدن آدم(ع) في رميه لابليس اللعين وعلى ديدن ابراهيم(ع) في رجمه للشيطان، هو سلوك تكاملي يعني التخلص من آثار الحجب الظلمانية التي يمثلها الشيطان والتسافل والعوالم السفلية وهي الارضين السبع، ولعل في ذلك ارتباطاً بالاحجار السبعة.
وكذلك الوقوف في صحراء عرفات على ذلك التل في يوم التاسع من ذي الحجة في يوم عرفة، حيث تعرف الخلق على الخلق والتقى آدم بحواء، انه فرصة لتعرف الخلق على الحق في المكان الذي يعبر عن صفحة الوجود الممكن المطلق على ذلك الوجود اللامتناهي، وهو ما عبر عنه الامام الحسين(ع) في الدعاء العرفاني في يوم عرفة "متى غبت حتى تحتاج الى دليل، ألغيرك من الظهور ما ليس لك،... عميت عين لا تراك...".
والهدي الابراهيمي تمام الاخلاص ونتائج الاخلاص والتسليم، فالذي صدق وتوكل ورضي بقضاء الله وسلم له فإن الله ينجيه ويفديه، ويكون القربان هو تقديم النفس وما هو اغلى من النفس والفداء هو الكبش، وتنقلب الصورة في حج الآدميين عندما يقدمون الهدي في سبيل الله وكأنه اشعار بخلاصة تسليمهم وتوكلهم على الله، فالحاج عندما لبّى نداء الله وتخلى عن كل شيء وقدم الى محضر الحق وسافر اليه والتزم بمناسكه فإنه يكون كإبراهيم(ع) في تسليمه وتوكله، وعند ذلك يضحي الحاج بالكبش لانه قد توكل وسلّم وأدى المهام المفترضة عليه.
وهكذا نكون أمام سفر عرفاني ورحلة عرفانية متكاملة، تبدأ بالاحرام والنية والخلوص والتوجه الى الله والتبرؤ مما عداه، ثم الوقوف بعرفة استعداداً لرحلة التعرف الى الحق ثم الافاضة التي هي اولى خطوات السير في الاتجاه الصحيح على الصراط المستقيم الموصل الى الله (الى بيته)، ثم التبرؤ الحقيقي من عدو الله وعدو اوليائه الشيطان، ثم حضور بين يدي الحق في بيته والطواف حول عرشه الهابط في عالم الشهادة كعبة ومحجاً، ثم سعي بين الرجاء والخوف منه، ثم هبوط الى الارض وقص او حلق من أم الرأس للعودة الى الشهادة، كما هو التشهد والتسليم في خاتمة الصلاة فالاحرام تكبيرة احرام، والوقوف بعرفة وقوف للصلاة، والافاضة من المزدلفة ركوع، والطواف مرتان سجودان، والسعي تشهد في وسط الصلاة، والقص او الحلق تسليم في نهاية الصلاة، وما يعقبه من التفات الى اليمين والشمال والامام والوراء بعد ان كان التوجه الى القبلة فقط.
فالحج صلاة كبرى يؤديها المؤمن يجوارحه وجوانحه على مدى من الزمان والمكان طويل يكون التوجه فيها (اي الصلاة الكبرى) الى القبلة الحقيقية وفيها، فميدان التوجه في الصلاة الى جهة القبلة، فهناك في الحج يكون التوجه ليس الى الجهة بل الى الذات، الى نفس البيت العتيق.
الانتقاد/ العدد 1243 ـ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007

2007-11-30