ارشيف من : 2005-2008

الكعبة المشرّفة: حجارة صمّاء في أوعر بقاع الأرض

الكعبة المشرّفة: حجارة صمّاء في أوعر بقاع الأرض


في كلام له حول الكعبة المشرّفة يكشف أمير المؤمنين (ع) عن سرها الكامن في طبيعة بنائها المشيّد من "حجارةٌ صمّاء لا ياقوتة خضراء".. وطبيعة الموقع الذي رفعت فيه "بين جبال خشنة ورمال دمثة"، لا "بين رياض ناضرة وطرق عامرة".
يرى الإمام (ع) أن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون الكعبة المشرّفة في مكة المكرّمة أكبر مصاديق الاختبار والابتلاء لخلقه تعبداً له وامتثالاً لإرادته، من خلال بناء مثل هذا البناء في مثل ذلك الموقع.
ففي طبيعة البناء يقول (ع): "ألا ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرُّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله للناس قياماً".
وفي مقطع آخر يقول (ع): "ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء وياقوتة حمراء ونور وضياء، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور، ولوضَعَ مجاهدة إبليس عن القلوب، ولنفى معتَلَجَ الرَّيب من الناس.. ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلا لعفوه" .

ومعنى ذلك أنه لو لم يكن البيت من أحجار عادية لا قيمة لها لما تحقّق الابتلاء الإلهي والاختبار الربّاني للإنسانية على طول مسيرتها التاريخية من الأوّلين من لدن آدم (ع) إلى الآخرين من هذا العالم، حيث تتجلى قصّة العبودية لله عز ّوجلّ والامتثال لإرادته والطاعة لأوامره في ما شرعه من مناسك الحجّ من طواف وسعي ورجم قد ينظر إليها من لم يدرك أسرارها ومقاصدها أنّها حركات غير عقلائية لا يمارسها إلاّ الذين اختلّت عقولهم. فما قيمة الطواف حول بيت من حجارة صمّاء، والسعي بين جبلين صلدين، والرجم لأحجار كبيرة بأحجار صغيرة، واستلام حجر أسود كالفحم، وما إلى ذلك من المناسك والممارسات؟!
وهذا النمط من التفكير كان يراود بعضهم في زمن الأئمّة (ع)، من أمثال الزنديق ابن أبي العوجاء الذي سأل الإمام الصادق (ع) يوماً ساخراً: "إلى كم تدوسون هذا البيدر وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، من فكّر في هذا أو قدّر، علم أنَّ هذا فعل أسّسَهُ غير حكيم ولا ذي نظر". ثمّ خاطب الإمام قائلا: "فقل فإنّك رأس هذا الأمر وسنامُه وأبوك أسُّهُ ونظامُه".. فأجابه الإمام (ع): "إنَّ من أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحقّ فلم يستعذ به وصار الشيطان وليّه، يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره. وهذا بيت استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محلّ الأنبياء وقبلة المصلّين، فهو شعبة من رضوانه وطريق يؤدِّي إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال ومجتمع العظمة والجلال". وهكذا نلتقي مرة أخرى بمقصد استعباد الله لخلقه بأحجار لا تضرّ ولا تنفع "ليختبر طاعتهم في إتيانه".


أما الموقع فكان: "بين جبال خشنة ورمال دمثة"، قد عبّر عنه القرآن الكريم على لسان إبراهيم الخليل (ع): "بوادٍ غير ذي زرع".
ويصفه أمير المؤمنين بقوله: "ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً وأقلّ نتائق الدنيا مَدَراً وأضيق بطون الأودية قُطرا، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة وقُرًى منقطعة، لا يزكو بها خُفّ ولا حافر ولا ظلف".

إنّه وصف رائع وبليغ لمدى وعورة ذلك الموقع على صعيد الجغرافيا، فقد اجتمعت فيه كلّ العناصر التي تجعله موقعاً صعباً يشقّ على الحجيج مزاره، لتكون تلك البقعة للناس برغم ذلك "مثابةً لمنتجع أسفارهم وغايةً لملقى رحالهم".

ويضيف (ع): "ولو أراد الله سبحانه أنْ يضع بيته الحرام ومشاعره العظام، بين جنّات وأنهار وسهل وقرار، جمّ الأشجار داني الثمار ملتفّ البُنى... بين بُرّة سمراء وروضة خضراء وأرياف محدقة وعراصٍ مغدقة ورياض ناضرة وطُرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء".

يقول العلاّمة ميثم البحراني في شرح "نهج البلاغة" تعقيباً على ذلك: "إنّ الله لو أراد أنْ يضع بيته الحرام بين هذه المواضع الحسنة المبهجة لفعل، ولو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، لكنّه لا يجب منه ذلك ولا يجوز، لأنّ مراد العناية الإلهية مضاعفة الثواب وبلوغ كلّ نفس غاية كمالها، وذلك لا يتمّ إلاّ بكمال الاستعداد بالشدائد والمكاره، فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع لاستلزامها ضعف البلاء".

لقد أراد الله عزّ وجلّ لبيته الحرام أن يكون محكّاً لمدى الإرادة والعزم، والتضحية والبذل، والخشوع والخضوع، والحبّ والعشق: " تهوي إليه الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتى يهزّوا مناكبهم ذلُلا يُهلِّلون لله حوله، ويرمُلونَ على أقدامهم شُعثاً غُبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً وامتحاناً شديداً واختباراً مبيناً وتمحيصاً بليغاً، جعله الله سبباً لرحمته ووُصلة إلى جنّته".
هكذا هي قصّة الابتلاء والاختبار والتمحيص التي هي سبب الرحمة والوصلة إلى الجنّة، لتكون المعادلة كما أرادها الله تعالى: كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة أوفر وأجزل.
اسماعيل زلغوط
الانتقاد/ العدد 1243 ـ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007

2007-11-30