ارشيف من : 2005-2008

قراءة استراتيجية في معنى هزيمة العدو وانتصار المقاومة

قراءة استراتيجية في معنى هزيمة العدو وانتصار المقاومة

كتب مصطفى الحاج علي
لا بد بادئ ذي بدء، من ايضاح دلالي لمعنى النصر ولمعنى الهزيمة: واذا كان الضد يظهره الضد، فلنقف ابتداءً عند معنى هزيمة الكيان الإسرائيلي.
أولاً: في معنى الهزيمة:

يعني هذا الكيان نفسه كجسم غريب مزروعٍ في المنطقة، وهو طالما ردد زعماؤه بأن كيانهم محاط ببحر من الأعداء. بناءً على هذا الوعي للذات، انشغل استراتيجيو الكيان الإسرائيلي بالأسئلة المصيرية المتمحورة حول الوجود نفسه، وحول حفظ هذا الوجود.
الأجوبة عن هذه الأسئلة جاءت متعددة، ويمكننا القول، إن كل سلوكيات الكيان الإسرائيلي، هي محاولات جادة للإجابة عن هذه الأسئلة. أما أبرز هذه الإجابات فيمكن ايجازه بالخطوط الرئيسية التالية:
أولاً: ضرورة بناءة قوة عسكرية قاهرة، تقوم فلسفتها على وجوب الحاق الهزيمة بأي خصم، وعلى وجوب ردع أي خصم من التفكير بمواجهة معها.
المطلوب هنا تثبيت القناعة التالية: أن القوة العسكرية الإسرائيلية لا تقهر، وأن لا إمكان للصمود أمامها، وأما الهدف النهائي فيتمثل بزرع اليأس في وعي وعقول وإرادات الخصوم والأعداء، ما يدفعهم إلى التسليم بوجود هذا الكيان، والاستسلام لهذا الواقع، وكل مترتباته السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
ان محاولة تثبيت هذه القناعة لم تنهض على الأساس العسكري فحسب، وانما رافقتها حملة دعائية وسياسية كبيرة، ساعد عليها مجموع الهزائم العسكرية التي منيت بها الأنظمة العربية، وهي في غالبيتها، أنظمة ذات طبيعة عسكرية، حملت ايديولوجيات تطلعية ونهضوية، الأمر الذي أدى ليس الى مجرد هزائم عسكرية، وإنما الى هزيمة مشروعات كبيرة، نتج عنها احباطات واسعة وعميقة على مستوى شعوب المنطقة.
ثانياً: يدرك الكيان الإسرائيلي ان القوة العسكرية مهما كانت طاغية لا يمكنها أن تضمن لوحدها استمرار الوجود، هكذا تفيد دروس وخبرة وقوانين الصراع التاريخي، خصوصاً إذا كانت الشعوب طرفاً أساسياً فيها، ولذا كان لا بد من العمل على خطّ آخر هو تفتيت المنطقة وإشغالها في صراعات وحروب بينية وداخلية من جهة، ومن جهة أخرى، وبالاعتماد على استراتيجية التيئيس وإحداث تحولات في مواقع وخيارات أنظمة المنطقة، وبالاتجاه الذي يحولها الى ملحقات وتوابع لهذا الكيان باعتباره نقطة الارتكاز لهذه الأنظمة. هنا نحن بصدد صناعة النظائر الشبحية التي لا وجود لها كوجود ظلّي للكيان الاسرائيلي تتحرك وفق حركته من دون أن تملك وجوداً حياً فاعلاً.
نستطيع بموضوعية أن نسجل لاستراتيجية العدو هذه نجاحات عدة، فهي، من جهة، نجحت في توهين النظام الإقليمي العربي الى الحد الأقصى، وفي ضرب التوجهات الوحدوية لمصلحة إبقاء نظام التفتيت قائماً، فبدلاً من أن ينمو الشعور القومي والوحدوي تقلص وذوى لمصلحة نمو الشعور الفطري والكياني. ومن جهة أخرى، نجحت أيضاً في تكثير الخيارات السياسية، فبدلاً من الاستمرار في خط الرفض الجذري لوجود الكيان الاسرائيلي، أخذنا نشهد، وعلى نحو معمق بعد انجاز مصر السادات اتفاقية كامب ـ ديفيد، المنطقة موزعة بين ثلاثة خيارات أساسية:
أ ـ الخيار التسووي، وهو خيار مباطن وملازم لقناعة أساسية هي استحالة استرجاع الحقوق بالقوة، والاقرار للعدو بأنه قوة لا تقهر، وأنه لا بد بالتالي من التخلي عن هذا الخيار، والركون فقط الى الخيار التسووي كطريق ممكن لاسترجاع بعض الحقوق.
من الواضح، أن هذا الخيار هو تعبير ملطف عن الإقرار بالهزيمة، والاستسلام لمنطق العدو، والاكتفاء بما يقدمه هذا العدو مقابل قبوله كحقيقة واقعة لا مناص منها في المنطقة.
من الواضح أيضاً، أن هذا الخيار لا يستقيم، ولا يستطيع أن يصمد إزاء أي محاججة، الا بشرطين: الأول، أن ينجح خيار التسوية في استرجاع ولو بعض الحقوق، والثاني فشل الخيارات الأخرى، خصوصاً خيار المقاومة.
ب ـ الخيار الذي يدعو الى الجمع بين الخيار الديبلوماسي والخيار المقاوم. إن جوهر هذا الخيار يقوم على عدم الإسقاط النهائي لخيار المقاومة ولو كورقة ضاغطة لتحسين شروط التفاوض، وهو، بالتالي، يحتفظ بحالة ممانعة مهمة، ويرفض التضحية بها.
ج ـ الخيار الذي يصر على أنه لا يمكن استرجاع الحقوق إلا بالقوة وعبر المقاومة تحديداً، وذلك انطلاقاً من رؤية متكاملة ترى أن أصل وجود هذا الكيان غير شرعي بكل المعايير، ولا يمكن القبول بمنطق أن القوة هي من تصنع الحق، وأن أي قبول بهذا الكيان، هو نوع من التشريع لوجوده، ومن ثم، فإن منطق الصراع مع هذا الكيان هو منطق الصراع التاريخي، وليس منطق الصراع الآني أو الظرفي، ومنطق الصراع التاريخي مشروط بالمراكمة خبرة وتطوراً، وبنقل موجباته من جيل الى جيل، وصولاً الى لحظة الإنجاز التاريخي المتمثل بالانتصار الماحق على المعتدي، والمسار التاريخي لهذا الصراع مسار جدلي ترتقي به الأمة من حالة الى حالة أرقى على كل المستويات نظراً لطبيعة الصراع المركبة، والتي تشمل كل المستويات.
هذه الخيارات الثلاثة ما فتئت تتعايش في المنطقة منذ عقودٍ من الزمن، ونظرة فاحصة اليوم للمنطقة ترينا توزعات هذه الخيارات وفق التالي، الأول هو من نصيب أنظمة بعينها، يدعمها نخب اعلامية وثقافية وأرباب مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية  ربطت أوضاعها ومشروعيتها بهذا الخيار، والثاني هو نصيب بعض الدول، وبعض النخب، أما الأخير، فالطابع الغالب عليه أنه خيار حركات شعبية.
إن الخيارات الثلاثة الآنفة تعايشت في لبنان على نحوٍ متزامن وواضحٍ  منذ دخوله مرحلة الطائف: لقد كان الخيار التسووي للرئيس الحريري واضحاً، وهو بنى مشروعه الإعماري والاقتصادي والسياسي على رهانات هذا الخيار، مجسدة بتجربة أوسلو ومدريد، أما خيار الجمع فكانت تمثله دمشق التي عملت على إدارة التعايش الصعب بين هذا الخيار، وخيار المقاومة الذي كان يمثله حزب الله، من هنا، عندما صدر القرار 1559 ببنوده المعروفة، وعندما خرجت دمشق من لبنان، كان واضحاً أن هناك قراراً أميركياً وغربياً ومن عرب التسوية اجمالاً يقضي بإعلان مرحلة جديدة عنوانها شطب مرحلة التعايش لمصلحة وضع الخيارين الحادين في مواجهة بعضهما البعض، ومن بعد الخروج السوري، وعملية اغتيال الحريري الذي كان ايذاناً بإعلان الهجوم الأميركي في لبنان، وبالارتكاز على أنصار خيار التسوية، لاصطناع ظروف داخلية في لبنان تؤدي في الحد الأقصى الى احتواء خيار المقاومة والتخلص منه، وفي الحد الأدنى الى محاصرته وإضعافه تمهيداً لضربه، لذا لا نغالي اذا قلنا هنا، إن عملية اغتيال الحريري انما جاءت في سياق استهداف مشروع وخيار المقاومة انطلاقاً من تحويلها الى قوة دفع كبيرة للخيار التسووي في لبنان.
واذا أخذنا بعين الاعتبار، المأزق الحاد الذي دخل فيه المشروع الأميركي ـ الصهيوني في العراق، والذي كان يستهدف، في أحد وجوهه تحويل النجاح المفترض في العراق وتداعياته الاستراتيجية على المنطقة، الى ممر أساسي لمعالجة الصراع التاريخي مع الكيان الاسرائيلي يقوم على فرض حالة استسلام شاملة، وانتاج تسوية لمصلحة هذا الكيان تحت عنوان كبير اسمه صياغة نظام شرق أوسطي جديد، يمكننا الآن الوقوف على الدلالات الجيولتكية العميقة لمعنى انتصار المقاومة في عدوان تموز:
في معنى الانتصار
أولاً: ان انتصار المقاومة ضرب أحد أهم مرتكزات خيار التسوية، وأحد حججه الكبرى، حيث أكد إمكان الانتصار على الكيان الإسرائيلي، المدجج بأعلى وأفضل وأكبر كميات سلاح. وكان طبيعياً أن يترنّح هذا الخيار، وتترنح معه الأنظمة التي تتبناه، وكذلك القوى التي ترتبط مصالحها المتنوعة بهذا الخيار.
ثانياً: لقد أسقط انتصار المقاومة كل استراتيجية التيئيس التي عمل لها هذا الكيان منذ نشأته، حيث حولته الى نمرٍ من ورق، ولأول مرة يتم نقل المأزق الى داخل هذا الكيان نفسه، والذي عبّر عنه بلجان تحقيق في أسباب الفشل.
ثالثاً: إن الأميركي الذي كان يتطلع الى اعادة التوازن الى مشروعه المترنح في العراق، وعبره في المنطقة، من خلال انتصار مفترض يحققه الكيان الاسرائيلي على المقاومة في لبنان، وجد نفسه، ومن خلال هزيمة هذا الكيان، يبلغ ذروة مأزقه، وهذا ما أفقده صوابه.
رابعاً: ان فشل العدوان وانتصار المقاومة في لبنان، ضرب الفرصة التي كان يتطلع اليها الاميركي والاسرائيلي وحلفاؤهما في المنطقة ولبنان الى اعادة رسم التوازنات في داخله لمصلحة خيار الالتحاق بالمشروع الأميركي ـ الصهيوني في المنطقة، وأكثر من ذلك للإطباق على الدول التي ما فتئت تتبنى الخيار الثاني كسوريا، والتي تتبنى الخيار الأول كإيران.
من البين، أنه لو انتصر الكيان الإسرائيلي في هذه الحرب، وتم الحاق لبنان نهائياً بالمشروع الأميركي ـ الصهيوني ـ البترودولاري في المنطقة، وفي ظل الوجود الأميركي في العراق، لأمكن فرض حصار استراتيجي ضاغط الى حد الموت على سوريا، وبدرجة أقل على إيران، ولأمكن أيضاً إطلاق يد الإسرائيلي مجدداً وبعنف أكبر ضد حركة المقاومة في فلسطين، مدعوماً بحصار اقتصادي ومالي وسياسي وعسكري وأمني دولي ومن عرب التسوية تحديداً، ومن الخط التسووي ـ الاستسلامي الذي يمثله أبو مازن.
من هنا، فإن انتصار المقاومة أحدث وضعاً استراتيجياً جديداً بكل ما في الكلمة من معنى، ليس على صعيد لبنان فقط، وإنما على صعيد المنطقة، ما حتم على واشنطن باعتبارها مركز الادارة للصراع بكل أبعاده، إحداث تعديلات في استراتيجية تعاطيها مع مرحلة ما بعد عدوان تموز، جوهرها احتواء تداعيات هذا الانتصار، ومنع ترجمته الى انتصارات أكبر في السياسة، وهي وجدت ان السلاح الأمضى في ذلك هو سلاح الفتنة المذهبية، وإعادة ترتيب محاور الصراع على قاعدة تحالفات جديدة ترتكز على تحويل في طبيعة الصراع وطبيعة الأعداء، فبدلاً من أن يكون الصراع العام مع الخارج ممثلاً بالاستعمار الأميركي ـ الصهيوني الجديد، ومع الكيان الإسرائيلي، فليصبح صراعاً يرتكز على تحالف موضوعي بين أنظمة التسوية والكيان الإسرائيلي والقوى التي تتبنى خيار هذه الأنظمة في مواجهة أعداء جدد هم حركات المقاومة وإيران وسوريا.
إن  ما نجده اليوم من تحركات واتصالات مختلفة في المنطقة وفي لبنان، ليس إلا ترجمات لهذه التوجهات، وإن كانت تطبيقاته المتنوعة تأخذ بعين الاعتبار ظروف كل بلد على حدة، والاستحقاقات الداهمة فيه، كما هو حال الاستحقاق الرئاسي في لبنان.
خلاصة القول هنا، لقد انتصر خط المقاومة والممانعة عسكرياً، إلا أن المرحلة الحالية تقتضي مهمة ومسؤولية كبيرة هي حفظ هذا الانتصار عبر توكيده كنهج وطني شامل، وهذه هي مسؤولية كل القوى المناهضة لعمليات الالحاق والاستتباع، ولمصلحة مشروع سيادة وحرية واستقلال حقيقي بكل ما في الكلمة من معنى.
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007

2007-08-17