ارشيف من : 2005-2008

هذا أنا.. أشجع جبان

هذا أنا.. أشجع جبان

كتب نصري الصايغ
لست شجاعاً

عبرت إلى الخوف مراراً. احتضنني كالابن الضال، تعرّف إليّ في الأزمات وأيام القتل، سمّاني جباناً، أشفق عليّ ولم يفضحني.
احترمني، لأنني كنت طبيعياً جداً، أُعلن انتمائي اليه، من دون خجل.
لست شجاعاً، وكنت أعترف بخوفي، ولم يمنعني خوفي من المجازفة في الخطر، دخلت حزباً ممنوعاً في زمن القمع، وزعت "مناشير" في الليالي الحالكة. قبلت مسؤولية حزبية طلابية، فور اعتقال رفاقي في الستينات، خبأت أوراقاً سرية عن عيون "المكتب الثاني" في أماكن لا يصل إليها الغراب الأسود ولا يكتشفها الصقر، ومع ذلك، فقد كنت أخاف، فكلما مررت أمام مركز أمني أو مركز شرطة أو مركز مخابرات أو.. كنت أظن، أن كل من حولي، ينخرني بنظره، يفتش جيوبي، يبحبش في محفظتي، يقرأ ما في رأسي من أفكار شريرة، ويستعد لاعتقالي.
مرة، كنت أنقل "مناشير" حزبية في ساحة البرج، يوم كانت الساحة برج بابل اللبنانيين الجميل، ومررت إزاء مكتب أمني يتصدر الساحة، وشعرت أن الحرّاس ينظرون إليّ، ويتعرفون إلى بطاقتي الشخصية، ويقرأون "المناشير" المخبأة، فارتجفت يداي، كادت ركبتاي تنوءان بي، إلى أن اختفيت خلف بوسطة حمتني من نظراتهم، وبرغم خوفي، لم أتوان عن تحمل مسؤوليات فوق طاقة شجاعتي الضئيلة.
ولست جباناً كذلك، فقد اكتشفت مقدار شجاعتي في الخامس من حزيران، كنت طالباً في جامعة القديس يوسف في بيروت، في كلية الطب، أطفأت الأضواء ليلاً، زينت المصابيح والشبابيك باللون الأزرق منعاً للرؤية الليلية، بلغت الحماسة ذروتها: نحن ذاهبون إلى تحرير فلسطين غداً، والآن الآن وليس غداً، أجراس العودة فلتقرع، وها هي تقرع عبر الإذاعات والخطب، كنا نسقط الطائرات بجملة واحدة، نعتقل الجنود زرافات زرافات، بلغت المعركة ذروتها: ها نحن نتقدم في وعر الجبال، نتقدم في الجولان، نحرر القدس، نسقط الحصون، ولم تكن الإذاعات العربية تتوانى عن الزحف الكلامي المقدس، بلغت شجاعتي الذروة: ها أنذا أترك المقاعد الجامعية، والزمن زمن امتحانات.
أقفلت الكلية أبوابها، ها أنا ذاهب أبحث عن ثياب قتال، الثياب تكفيني، لم أكن أعرف السلاح ولا اقتناءه ولا إطلاق الكلام منه، وزحفت يومين بين الأصدقاء، حتى وجدت ثياب القتال، فيما كانت الحرب تضع أوزارها، انتصاراً خاسراً، وهكذا، لم يتسنّ لي المشاركة في القتال، بثيابي الكاكية، عوّضت عن ذلك بالبكاء، أعلن عبد الناصر تنحيه عن القيادة في مصر.
منذ ذلك اليوم، وأنا أكره الثياب الكاكية، كانت بطاقة هزيمتي ومع ذلك، فلم أتراجع عن فلسطين، فلسطين قداسي، فلسطين مسيحي، فلسطين قيامتي، ولم يكن أمامي سوى أيام، حتى انتظمت في الجماهير العريضة التي انتقلت من كل لبنان، لاستقبال أول شهيد لبناني في الأغوار، عز الدين الجمل.
لبنان كله، نزع الثياب الكاكية، واستعاض عنها بالبنادق.
وعدت الى حزبي، قبل المؤتمر القومي لأعمل مع بقية الرفقاء، للمطالبة بأن يكون  الكفاح المسلح، الشغل الشاغل للحزب، واختارتني القيادة مع عدد ممن يفوقني شجاعة وقوة ومراساً وتدريباً، لأكون فيه أصغر عضو في مكتب الكفاح المسلّح.
ولم أكن أعرف من الرصاص إلا لفظه، ولم أكن جباناً، تورطت عندما عرض على الحزب انزال باخرة سلاح على أن تكون له حصة فيها، ولما عرض الأمر على القيادة ارتأت أن تبحثه في "مكتب الكفاح المسلّح" فاعترض أصحاب الخبرة والشجاعة والقوة والممارسة، وبعضهم كان قد خرج للتو من سجون بيروت وسجون دمشق، وكنا نتغنى بشجاعتهم وتفوقهم في الوقوف بجرأة لا مثيل لها أمام قرارات الإعدام التي لفظها القضاء العسكري بحقهم.
كانوا فوق الشبهة، ولم يكونوا بحاجة إلى إثبات جدارتهم في البطولة. إلا أنني لم أقتنع بوجهة نظرهم، فكافحت مع قلة، من أجل القبول بالصفقة: باخرة سلاح، مقابل حصة للحزب، كي يشترك في المقاومة.
عندما أتذكر ذلك، لا ألوم القياديين، لأنهم درسوا الصفقة من زاوية غير زاوية المغامرة، التي كنت أنوي خوضها في الكفاح المسلح، وأنا الذي لا يعرف معنى البندقية، ولم ينم يوماً في مخيم، ولا تدرب في خندق، ما أسهل القتال بالكلمات، ولكنني كنت مستعداً لأكثر من ذلك أيضاً، وبالكلمات.
عندما تعرضت للفصل من الحزب لأسباب "مغامرة"، التحقت بصفوف المقاومة الفلسطينية، ضمن فريق اعلامي (غير أمني).. وكانت التجربة فاشلة، لأن المقاومة ليست في الاعلان، بل في الإعلام، وكنت أخلط بين الاثنين بصفاقة، الخطابة عندي كانت أفضل من الحقيقة والفصاحة أفضل من الصدق.
ولم يتأخر الاجتياح الإسرائيلي، ها هي قوات "التساهال" تتقدم بسرعة قياسية. خلال أيام أنزلت قواتها في جبل الباروك، أحاطت بالمدينة من الجو والبر والبحر، بيروت تحترق يا عرب، ونحن كالجرذان نموت فيها. ما العمل. خوفي فوق طاقتي. امتنعت عن الطعام، جسدي خانني، روحي تسير خلفي بعيداً. أنتظر اللحظة التي أموت فيها.
أنقذتني محاولة هرب وفقت بالخروج منها عبر إحدى البوابات غير الآمنة. وصلت جونية بهدف انتظار باخرة تقلني الى قبرص، عبث، البحر ممنوع عليّ، "القوات اللبنانية" أغلقت المنافذ البحرية، أقامت نقاط تفتيش، من كان مثلي لا يمكن أن يخرج، فأقمت في مخبأ في جونية كجرذ لا يجرؤ على النظر من النوافذ.
كيف لا أخاف وبيروت تتساقط، والمقاومة الفلسطينية تخرج منها والاحتلال ينصب في السلطة حاكماً يمهد الطريق لاستلام معلن، قيل انه تأجل قليلاً لحسابات المفاضلة.
اغتيل بشير الجميل.. هرع البعض للتوقيع على استقالة محسوبة بمقاييس الخوف، أنا الخائف الجبان قلت: لن.
داومت على أخذ الحبوب المهدئة، هذه هي حبوب الشجاعة، حبة واحدة لا تكفي؟ فلتكن حبتين.. حبتان لا تكفيان، فلتكن ثلاثاً، أكثر من ذلك ممنوع، وأدمنت على الشجاعة بواسطة الحبوب المهدئة، جاءني صديق يقول لي: العدو أمامنا فلنقاتله، وهكذا كان، وهكذا صار، ولكني لم أكن أعرف كيف أمسك بمسدس، لم يمنعني جهلي بتقاليد السلاح، أن أكون مسلحاً بالإيمان المكسور من رأسي حتى أخمص قدمي.
وكان عليّ أن أرقّم ايماني بعد كل نكسة وكبوة وهزيمة. أعترف أنني بالرغم من كل يأس لم أستسلم مرة للاستسلام الجميل، للاستسلام المريح، للاستسلام المبرمج، كل شيء يجد تبريره في العقل، عقلي حصان حرون لا يروّضه الواقع. الشعر يكون أحياناً معاني الى المدى. معاني له أجنحة، انه يطير، وهو الأشد حاجة الى الأرض كي يعود.
عندما كنت أفقد الأرض، وتدور تحت قدمي، كان حصاني المجنح يأخذني بعيداً.. الى الحرية.
وكان الخامس والعشرون من أيار.
يا الهي ،من أين وافتني منية الخوف، لقد مات خوفي،أنا الجرذ الجبان الخائف المذعور المختبئ في  الملاجئ، النازل في الهجرة، الذي يخفق قلبه كإبرة في عاصفة، أنا المدرّب على ممارسة الهلع واكتشاف الكارثة قبل أوانها، كيف أزلت الخوف عني، وصرت أحد التماسيح التي لا تشعر بخطر داهم، حتى ولو كان تحت قدمي.
كنت أشبه الخضر، أنا جاورجيوس الذي سيصارع التنين وأصرعه، طلبوا مني صباح السابع والعشرين من أيار، أن أكون ضيفاً لحلقة تلفزيونية، وبادرتني بالسؤال فلم أجبها، كنت أسمع خلفي موسيقى. طالبت المذيعة بأن تكف المحطة عن اذاعة أغان حزينة، انه يوم الفرح الأعظم، إنه يومي العظيم، لذا، عليّ أن أرفض أغنيات مارسيل خليفة، لا أريد سماع قصائد محمود درويش، أعطوني صوت الفرح الخالد. فليصدح صوت زكي ناصيف، عبقري الفرح، هذا هو يومنا، لقد انتصرنا.
وبعد كلام لم أعد أذكر منه كلمة، خرجت من محطة التلفزيون، وشعرت أنني أمشي على الهواء.
لست من سلالات نبوية، المسيح قبلي مشى على الماء في بحيرة طبرية في فلسطين، ها أنذا البشري الخائف الجبان المتردد أمشي على الهواء.
ولست من المؤمنين بكثافة وأصول، انما جاء التحرير، كأنه صوت عميق الأغوار، يبنج الحواس الخمس، يخفف من أثقال الجسد، فصرت الهواء الذي يمشي على الهواء.
وجاء اليوم المشهود، في 12 تموز يدلف إليّ وأنا في محطة تلفزيونية ثانية. يفاجئني المذيع بخبر عملية أسر الجنديين، فأهنئ اللبنانيين بالعملية وأقول كلاماً يشبه الكلام، ومن هناك خرجت الى موعد مع  صاحب جريدة السفير الاستاذ طلال سلمان، يضعني في أجواء ردود الفعل، إنها الحرب تقول الاتصالات فأستعد لها، وأقرر الدخول فيها أنا الذي أعرف طعم الطلقة ولا وجبة الصلية.
ثلاثة وثلاثون يوماً وأنا منغمس في شجاعة ورعونة. غامرت، لم أكن مقاتلاً، كنت أتمسك بإيمان لا يقهر.
قلت لأصدقائي: إما أنتحر وإما أنتصر، ولن أنتحر لأنني جبان، إنما سأنتصر.
وجاء يوم الفتح العظيم.
وأطل السيد ينشد بجوقة حنجرته الرائعة: يا أشرف الناس، ويا أنبل الناس. وبعد ذلك لم أعد موجوداً، نصري لم يعد موجوداً،  انخطف قبل ذلك، مشى نصري على الهواء، هو الآن في انخطاف كلي.
 عرفت بعد ذلك أن سبب هذا الانخطاف شعور بالاطمئنان، كنت مدركاً أننا سننتصر، لم أشكك لحظة بالانتصار، لهذا منعت نفسي من البكاء على الشهداء، منعت نفسي من متابعة مشاهد المجازر في قانا والشياح والبازورية وصريفا على التلفزيون، منعت نفسي من الضعف، كانت قبضتي أقوى من تلال مارون الراس، أظافري أشد مناعة من الميركافا، ولم أكن مخطئاً.
أنا ابن الستين واثنتين من السنوات، أشعر أن الأعوام الأخيرة، قد خلقتني من جديد، رجاءً، تعاملوا معي، كأنني مراهق، أنا مراهق في الستين، أحلم بتحرير فلسطين، وأنا ذاهب الى القدس بقدمي، ولو بعد مماتي.
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007

2007-08-17