ارشيف من : 2005-2008

من يوميات المجاهدين : كل من في القرية سمع صراخ الجنود

من يوميات المجاهدين : كل من في القرية سمع صراخ الجنود

محيبيب  آب 2006
القريةُ الصغيرة مكشوفة أمام الإسرائيلي، وهو على السمع مع المجاهدين، كلما أعطوا إشارة أغار الطيران الحربي.




مع بدء الحرب، توجه بعضُ أبناء القرية من بيروت إليها، ليضعوا أنفسهم تحت تصرف قيادة المقاومة، ورفض العديد منهم العودة، فهم يريدون الدفاع عن قريتهم. أحدهم كان فتى عمره أربعة عشر عاماً، طلب إلى مسؤول المجموعات أن يوكل إليه أي مهمة، ورفض رفضاً قاطعاً العودة، فسأله مجاهد هل تستطيع أن تحمل حملاً ثقيلاً؟  فأجاب بالإيجاب، وليؤكد على كلامه طلب إليه أن يقفز على ظهره، ففعل ذلك مجاهد ضخم مداعبةً له، فحمله ومشى به ليثبت لهم جدارته بالبقاء، فعمل في نقل الصواريخ للرامي طوال فترة الحرب.
لم تفقد البلدة الكثير من حياتها الطبيعية في الحرب إلا في المواجهات، فهناك الكثير ممن بقي من النساء والرجال متطوعين في خدمة المقاومين، وفي كل يوم يقوم مسؤول المجموعات بتفقدهم والسؤال عن أحوالهم، وقد لفتَ نظره كثيراً الاطمئنان الذي تحلى به علاء، ذلك الشاب العشريني الذي كيفما تلفت قال لمسؤوله: "أنا معك للموت"..
كان مسؤول المجموعات يرتاحُ قليلاً في تلك الليلة الصاخبة بالقذائف عندما أيقظوه بعد منتصف الليل وأخبروه أن الإسرائيليين في الخارج، فسحب القنابل مباشرة، واتخذ ومن معه مواقع قتالية.
كان صوت الإسرائيليين مسموعاً، وتبعه صوت تفجير عدة عبوات انتشرت شظاياها على البيوت. ظلّ الجميع في أماكنهم ليرصدوا تحركات العدو، وخصوصاً أن قبل يوم حصلت المواجهة في الطيبة، ولكن الإسرائيلي لم يستقر في مكان، بل بدأ بفتح الأبواب.
عندها صار لا بدّ من فتح النار، فالعدو لا يبعد أكثر من مترين عنهم، جهّز الجميع أسلحتهم، ودارت الاشتباكات في طريق ضيّق وصغير، وعلا صراخ الجنود بشكل هستيري سمعه كل من في القرية.
كان الجنود من لواء غولاني يحملون مصابيح على أسلحتهم ما سهل للمقاومين اصطيادهم، وقد وقع عدد كبير منهم قتلى، ذلك لو أن أحدهم كان جريحاً، لأطفأ المصباح حتى لا يتعرض للقتل المباشر.
انتشر الجميع، المقاومون من جهة والعدو من جهة أخرى، وانتقلت المواجهات من طريق لأخرى، وصواريخ ضد الدروع تصدّ الدبابات. استبسالٌ وشجاعة بذخيرة قليلة، وبأسٌ قوي في مواجهة مباشرة.
 أحد رماة الـ"ب 7" أطلق قذائفه ناحية الجنود عبر تحديد الرصد لمكانهم، وأصيب بعد ذلك إصابة في رئتيه، فسُحب على أثرها إلى مكانٍ آمن.
صار المقاومون يسددون طلقةً طلقة وعلى الرأس مباشرة وبتحديد شرارة فوهة بندقية الإسرائيلي الذي تراجع بسرعة وبدأ ينتشر في الأماكن العالية، بينما حلقت طائرات الاستطلاع والحربي على علو منخفض وبدأت باستهداف المجاهدين.
كان علاء يقف ومسؤول المجموعات تحت إحدى الشرفات عندما سقطت قذيفة طائرة استطلاع بينهما، فنجوا منها، وقد ركض مجاهد ليتفقدهما، وبرفة جفن اختفى علاء، ودارت بعد ذلك بلحظة مواجهة عنيفة بينه وبين الجنود، فلحقا به والتحما معه إلى أن أصيب علاء، وتمّ سحبه إلى حيث رفيقه الجريح الأول.
بقيا معاً ليومين، ولكن صاروخاً إسرائيلياً استهدف المكان استشهد من جرائه علاء.
لم يُبعد بعض المدنيين أنفسهم عن المواجهة، فبعد سقوط احد المجاهدين قرب ساحة البلدة خرج رجل أربعيني لا يقوى على السير دون عصاه لإعاقة في قدمه، فرمى عصاه وحمل سلاح الشهيد وأطلق الرصاص إلى أن استشهد أيضاً بغارة طائرة استطلاع.
محيبيب 2 آب 2006
قسّمنا المناوبات علينا نحنُ الثلاثة؛ ربيع، وإبراهيم، وأنا، كل فرد منا يحرس لساعتين، فجميع المجموعات على أهبة الاستعداد للمواجهات المباشرة مع العدو.
بعد مرور عدة أيام على الحرب، كانت الحياة شبه طبيعية عند أبنائها، فبعضهم كان يجتمع في الساحة تحت هدير طائرات الاستطلاع والحربي التي لم تغادر السماء، ولكن عندما بدأت صواريخُ العدو تسقطُ في البلدة، قرر جزء منهم المغادرة، وبقي البعضُ الآخر.
في تلك الليلة المُشتعلة بالقذائف، علمنا باقتراب التقدم الإسرائيلي، والتشويش الذي سيطر على أجهزتنا اللاسلكية أثبت ذلك. تناوبنا على الحراسة كالمعتاد، وبعد منتصف الليل أخبرني إبراهيم انه يسمع صوتا في الخارج، قمتُ بسرعة وفي بالي أنه رسول لإحدى المجموعات. اقتربتُ خلسة من الباب فإذ بي أرى جندياً يجلسُ ويحاول فتح الباب، وبالقرب منه ثلاثة جنود عكستْ ضخامتهم حجم عتادهم الكبير، ترافق ذلك مع صوت مشي سريع على السطح.
نادى ربيع المجموعات المُساندة، فيما هيأت وإبراهيم سلاحينا، وبلحظةٍ فجّر العدو الباب بعبوة ناسفة، فتح على إثرها إبراهيم النار بسرعة، وساعده ربيع بذلك، فيما أصبت أنا بقنبلة يدوية رماها العدو من الشباك.
لم يتوقف الاشتباك بيننا، حتى بعد إصابة إبراهيم أيضاً في قدمه، وبدأنا بالانسحاب عبر السطح. السلاحُ بيد، وبالأخرى نساعد بعضنا البعض حتى وصلنا إلى الجهة المشرفة على الحرج.
الليلُ أنير بالقنابل المُضيئة، وصوت طائرة الاستطلاع المنخفضة يصمُّ الآذان، والرصاصُ الغزيرُ ينتشر في جميع الاتجاهات، والجنود يلحقون بنا، ونحنُ على ارتفاع خمسة أمتار، والجرح الساخن ينزفُ بشدة.
كان هناك حبلُ غسيلٍ عليه بعض الثياب، فربطنا الثياب بعضها ببعض ومن ثم بالسلاح، وساعدنا إبراهيم بالنزول أولاً، ومن ثمّ قفزتُ وربيع وبدأنا بالركض السريع منخفضي الرؤوس، حتى وصلنا إلى شجرةٍ احتمينا بجذعها وربطنا مكان إصابة إبراهيم الذي عجز عن متابعة الطريق.
كان يجب أن نأتي بإمدادتٍ، ولكن الطريق طويل ومحاصر، فتابعنا الانسحاب إلى مكانٍ آمن يَبعد مئة مترٍ عن مكان المواجهة، حيث استطعنا الشرب وغسل الدماء. وقف إبراهيم وبدأ برصد المكان، وسرعان ما استهدف بالرصاص، فانتشرنا سريعاً، ثم أشرت لربيع أن يركض باتجاه الحرج القريب، فيما الطيران الحربي أغار على بقعة وجودنا أكثر من مرة.
توسعت دائرة المواجهات في القرية، ولم أعرفْ أي شيء عن إبراهيم الذي ركض باتجاه معاكس، والوجعُ تسّرب إلى روحي من إصابتي التي بردت، فساعدني ربيع للوصول إلى مدخل منزل، حيثُ نمتُ وهو يحرسني.
في اليوم التالي كان القصفُ قد هدأ وبدأنا نسمعُ حتى الساعة الثالثة من بعد الظهر طلقات متفرقة من الرصاص، فخرج ربيع ليجلب الماء، فوجد بالقرب من البئر غالوناً مليئاً حمله إليه، وترك معي علبة من التونا، وأعطيته درعي ليتوجه إلى القرية ويخبر الأخوة بإصابتي.
عندما لم يعد ربيع زحفتُ صوب باب المنزل وفتحته، ودخلتُ وغسلتُ جراحي. بقيت هناك ثلاثة عشر يوماً لا أعرف شيئاً عمّا يدور في القرية.
سبعة أيام مرت كنتُ أعجز خلالها عن الوقوف. وقسمتُ طعامي وهو عبارة عن أوقية واحدة من اللوز، فكنتُ آكل في كل يوم قطعتين صغيرتين جداً، وأبلل شفاهي بالماء.
وفي صباح أحد الأيام، استيقظتُ على صوت سيارة بعيدة، وقفت بالقرب من النافذة فكانت لرجل مدني يتجه إلى البلدة، فعرفتُ حينها ان الحرب انتهت، خرجت من المنزل على عجل، فهالني ما رأيتُ، كانت البلدة قد جرفتْ، والبيوت تهدمت.
بقيتُ هناك يومين، عرفتُ أن ربيع قد احتجز أيضاً في مكان لم يستطع الخروج منه، وساعدتُ المجاهدين بسحب الشهداء... كان أحدهم صديقي؛ إبراهيم خلف.
الانتقاد/ العدد الخاص بالانتصار ـ 17 آب/أغسطس 2007


2007-08-17