ارشيف من : 2005-2008
كتاب "مكتوم" إلى رئيس الجمهورية العتيد

والعقل كذلك... هو دستور الطائف، الذي ظل طائفاً ولم يبلغ بعد شاطئ الأمان الدستوري... حسبنا انه الآن افضل تطبيقاً، وأكرم، من يوم قرأ اللبنانيون "مانشيت" في جريدة عربية كبرى تقول ان الشعب اللبناني بأكثريته "الساحقة" يفضّل فلاناً من الناس، فهرول النواب في اليوم التالي لانتخاب هذا "الفلان" رئيساً!...
ولا تزال ديمقراطيتنا أفضل من تلك التي "تنعم" بها بعض الدول العربية الشقيقة (وهي كثيرة "من غير شر"!!!) والتي تفسح دساتيرها للرئيس الحاكم، كيفما كان تحكيمه، وتحكّمه في أن يستمر في الحكم الى ان يبلغ ابنُه السن، أو مرتبة القوة التي تمكّنه من خلافة أبيه...
تصوّر، يا فخامة الرئيس، أين كنا نكون، في "عصفوريتنا الدستورية" لو كان هذا حال نظامنا "الديمقراطي".
• • •
وبعد، فالديمقراطية بطبيعتها، ولأنها – نظرياً على الأقل – حكم الشعب، متقلّبة المزاج وعقوقة في غالب الأحيان.
تذكّر، وأنت لا بد من قرّاء التاريخ، ان "بيريكليس" باني العصر الذهبي لأثينا أم الديمقراطيات الأوروبية، خلعه الشعب بحجة (نقول حجة، وكان أحرى أن نقول ذريعة) أنه لم يتمكّن من حماية الجمهورية من مرض الطاعون.
وبيريكليس كان بالكاد قد انتهى من قيادة الاحتفالات بانتصار أثينا في أقسى حرب (ضد اسبرطة المدينة "العسكرية" وحلفائها ومنهم الأسطول الفارسي) ووقف يرثي الأبطال الذين "استشهدوا" في تلك المعركة (ومعظمهم غرق في البحر) قائلاً: لا تسألوا أين هي مدافن الأبطال، انهم يرقدون في قلوبنا والعقول حيث صورهم وذكراهم ستكون مصدر قوتنا وايماننا بعظمة أثينا وجمالها ومستقبلها.
ثم أردف قائلاً: تطلعوا الى أثينا كم هي جميلة عظيمة وتذكّروا انكم أنتم وأبطالكم صنعتموها لتكون مثالاً يحتذى للأمم والشعوب.
وكان المؤرخ توكيديدس يصف بيريكليس بقوله انه "اذا وجد الشعب محبطاً لغير ما سبب أعاد اليه بكلام قليل العافية والثقة والايمان. اما اذا وجده كثير الزهو، مبالغاً، اعاده، بكلام قليل كذلك، الى الشعور بالمسؤولية والعزم!
• • •
لا أجد، يا فخامة الرئيس – الذي لا نعرف "هويته" بعد – مثالاً أفضل في التاريخ أقدّمه لك تحتذيه. وأضيف ان بيريكليس الذي كان مرشح الحزب الديمقراطي، أصرّ – قبل ساركوزي بخمسة وعشرين قرناً، وقبل ديغول – أن يكون رئيس شعبه كله ولا يميّز بين محازب ومخاصم، بل دفن كل النزاعات الحزبية تحت قدميه يوم تبوأ الحكم.
وأنت كذلك، مطلوب منك، خصوصاً انك جئت كمرشح "الوفاق"، ان تطرح الأحقاد (أحقاد الآخرين وأحقادك اذا كانت لك أحقاد!) وحتى التحفّظات جانباً وانت تقبل على حكم لبنان – وتقسم وحدك على الحفاظ على دستوره وحماية سيادته – وان تتبنى شعار الصلحي الثاني، "تقي الدين"، يوم قال انه يريد أن يرئس "حكومة كل لبنان" لأن في ذلك ضمان بقاء الاستقلال.
واذا كانت حكوماتنا منذ الاستقلال لم تحسن كلها الحفاظ عليه وانماءه – فكانت الحروب التي تركنا لبنان يصير ساحة لها – فلأنها لم توحّد لبنان في الحكم بل تركت ميثاقه الوطني يتمزّق لنلملم اشلاءه، "طائفة" هنا، وطوائف هناك وهنالك...
لا نريدك يا فخامة الرئيس ان تبخس الذين سبقوك حقاً، ولكننا نلحّ عليك ان تتفّرس في أخطائهم كي لا نقع كلنا معا في أي هاوية من تلك التي ساقنا بعضهم الى حافتها وكدنا نقع معهم فيها مرات، ونفنى!
• • •
خاتمة القول، الذي يجب أن يكون اليوم قليلاً، لأن الزمن ليس زمن كلام، هو هذا:
ان تهافت العالم كله على انقاذ الديمقراطية اللبنانية هو تعاقد بينك وبين العالم الذي ما كان لبنان ليعني له شيئاً لو كان مجرّد أرضٍ بمساحة تكاد لا تتسع لوطن، أو مجرّد شعب مستعجلة أجياله للهرب من هويتها لأنها تسربلت باليأس بعد سقوط الأحلام.
نعم، لبنان، كأثينا، حلم جميل وعظيم، وهو الأعظم لأن أثينا كانت حضارة واحدة وعنصراً واحداً...
أما لبنان، ففرادته وعظمته في انه ملتقى صراع حضارات، بل كل الحضارات، ومسرح بل مختبر حوارها. وان رسالته الى العالم، رسالة الحرية والتنوير، وحدها جعلت أمير مكّة المكرمة يحج (نعم يحج!) الى روما ويهدي سيفاً عربياً الى من يقولون عنه انه رئيس كنيسة المسيح وممثل السيّد الرب على الأرض.
وليكن عهدك الذي نريده – أياً تكن انت – طليعة عهد للاستقلال الثاني... وليكن عهدك عهد اجتماع ما سئمنا تسميته "العائلات الروحية" في عائلة واحدة هي عائلة الله الواحد الأحد الذي لا يميز في عليائه بين المتعبّدين له. ولولا خوفنا من محاذاة الكفر لقلنا ان الله عزّ وجل، لو كــــــان يتعب، لتعب من اسراف بعضنا في جعل عبادته عداءً للآخرين.
حسبنا أن نقول لك، ونحن ندرك خطورة المسؤولية التاريخية، ان للإسلام مصلحة في نجاح الرسالة اللبنانية، تحميه من الانجراف وراء التطرّف، بل الارهاب الذي يدّعي تمثيله، بقدر ما للمسيحية مصلحة في نجاح رسالة الحوار ذاتها لأنها هي التي تحفظ للنصارى حق البقاء في أرض ميعادهم هم، لا ميعاد سواهم!
وسرّ نجاح الرسالة في الذي يكون راعيها. أي في كلمة رئيس الجمهورية الوحيدة في العالم التي يجتمع فيها هذا القدر من المؤمنين بالإله الواحد، على تنوّع ايمانهم. فعليك أنت أن تنسج وشائج الاحترام المتبادل بينهم، باسم احترامهم للإله ذاته ولتعاليمه ووصايا انبيائه ولو تعددوا. هكذا تصير "العائلات الروحية" التي أتعبها تعددها عائلة واحدة، هي عائلة "ارز الرب" ولبنانه.
ولتكن كلمتك لهم جميعاً، كما قال بولس الرسول "نعم، نعم"... أو "لا، لا". ولتكن ذاتها أياً كان الذين تخاطب، فكلهم واحد ولا يحتاجون، شأن ما يظن الساسة الزائفون، الى لغتين ولسانين... حتى لا نقول ثماني عشرة لغة وثمانية عشر لساناً!
مبروكة هي رئاستك، والى اللقاء، في ظلال السلام البرلماني الذي نرتقبه ونصلي ليسود غداً وبعد غد... والى نهاية عهدك وما بعده، آمين.
المصدر : صحيفة النهار اللبنانية