ارشيف من :أخبار عالمية
مصر... في مهب النيل !

في العام 1999، أطلقت مبادرة حوض النيل الهادفة إلى تحسين معدلات التنمية ومحاربة الفقر في البلدان التي يخترقها نهر النيل. ومنذ ذلك الحين، انعقدت مؤتمرات عدة بهدف وضع إطار قانوني لعملية تقاسم مياه النهر بين البلدان المعنية. لكن جميع هذه الاجتماعات انتهت إلى الفشل.
آخر هذه الاجتماعات انعقد في نيسان/أبريل الماضي في شرم الشيخ وبرز فيه خلاف حاد بين مصر والسودان، من جهة، وبين بقية البلدان المعروفة باسم بلدان المنبع، من جهة ثانية. وهذه البلدان هي بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وإثيوبيا وإريتريا.
وفي أجواء هذا الخلاف، قامت أربع من هذه الدول هي اثيوبيا واوغندا ورواندا وتنزانيا بتوقيع اتفاق جديد حول تقاسم مياه النهر. ولم تحضر كينيا اجتماع التوقيع لكنها أصدرت بياناً أعلنت فيه دعمها الكامل للاتفاق الجديد مؤكدة رغبتها في توقيعه "في اقرب وقت ممكن".
ولم تصدر مواقف واضحة عن كل من بوروندي والكونغو الديموقراطية وأريتريا التي لم تحضر بدورها الاجتماع المذكور.
أما مصر والسودان، فقد صدرت عنهما، وخصوصاً عن مصر، تصريحات قللت من قيمة ذلك الاتفاق واصفة إياه بالهش، على أساس أنه يتناقض مع القانون الدولي.
وكانت تصريحات مصرية سابقة قد اعتبرت قضية النيل قضية حياة أو موت بالنسبة لمصر، ووصل الأمر ببعض المسؤولين المصريين إلى القول : "القوانين الدولية تتيح لنا الحرب ولو وصل بنا الأمر إلى أن ندك دولاً بالقنابل لحماية أطفالنا ونسائنا من العطش فلن نتأخر".
وعندما يتحدث المصريون عن القانون الدولي، فإنهم يقصدون معاهدة وقعت عام 1929، وعدلت عام 1959، وحصلت بموجبها مصر والسودان على حصص تفضيلية تصل إلى 55،5 مليار متر مكعب سنوياً لمصر، و18،5 مليار متر مكعب للسودان، أي ما مجموعه 87 بالمئة من منسوب النهر. كما تتمتع مصر، بموجب تلك المعاهدة بحق النقض اللاغي لكل إجراء يمكن أن يؤثر على منسوب النهر.
لكن دول المصب تعترض على تلك الاتفاقية لأنها كانت من صنع القوى الغربية التي كانت تستعمر جميع بلدان حوض النيل في تلك الفترة.
وإذا كانت الاتفاقية الجديدة الموقعة من قبل البلدان الأربع لا تشير إلى أية أرقام، فإنها تلغي اتفاقيتي 1929 و1959 اللتين يقرهما القانون الدولي.
والواقع أن الإلغاء قد بدأ من الناحية العملية منذ سنوات عديدة، وهو جار على قدم وساق، من خلال مئات المشاريع في مجالات الري والسدود وتحويل المجاري، وكلها يؤدي إلى انخفاض منسوب مياه النهر التي تصل إلى مصر.
وقد يكون إطلاق مثل هذه المشاريع المكلفة أمراً مستغرباً لأن جميع بلدان المصب تعاني من الفقر المدقع. لكن الاستغراب يزول عندما نعلم أن هذه المشاريع تنفذ من قبل شركات غربية وإسرائيلية اشترت مساحات واسعة من الأراضي حول ضفاف النهر وروافده، أو بفضل هبات ومساعدات مالية تحصل عليها بلدان المنبع من الولايات المتحدة و"إسرائيل".
ومع اعتراف المراقبين بحاجة بلدان المنبع إلى مشاريع تنموية، فإنهم يعترفون أيضاً بأن مثل هذه المشاريع يمكن أن تنفذ على نطاق واسع دون إلحاق الضرر بحصتي مصر والسودان من مياه النهر. ومن هنا يصبح من الواضح أن دوافع سياسية، لا تنموية، هي ما يفسر المبالغة في إطلاق تلك المشاريع.
وهنالك مؤشرات عديدة تدل على أن "إسرائيل" هي الجهة التي تقف وراء تلك المشاريع الهادفة إلى إلحاق ضرر قاتل بمصر. لجهة حاجة مصر الماسة لمياه النيل، وحاجة الإسرائليين إلى الإمعان في إبعاد مصر عن كل اهتمام بحدودها الشرقية عبر توريطها في مشكلات على مستوى علاقاتها الإفريقية.
وهنالك أيضاً طموح "إسرائيل" القديم إلى تملك نهر النيل، من المنبع إلى المصب. وقد سبق للرئيس السادات أن عرض، منذ كامب دايفد، شق قنوات لإيصال مياه النيل إلى النقب لكن الشعب المصري قد تصدى لهذا العرض وحال دون تنفيذه.
والأكيد أن استخدام "إسرائيل" لبلدان المنبع في الضغط على مصر يظل قابلاً للتوقف إذا ما عادت مصر إلى تبني مشروع السادات وتقديم النيل هدية لـ"إسرائيل"، خصوصاً وأن ذلك سيسمح لها بالظهور بمظهر المنافح عن غزة... إذا ما علمنا أن قسماً من المياه سيخصص للقطاع... في محاولة واضحة لوضع هذه الخطوة "الخيرية" في خدمة المؤامرة التي تستهدف صمود غزة.
ثم إن حرمان مصر من الماء، يظل في جميع الأحوال (نحن في زمن الاستثمار في الكوارث والأمراض والمصائب) فرصة ثمينة يسيل لها لعاب الكثيرين من رجال الأعمال المصريين وغير المصريين ممن يطمحون إلى تزويد مصر بالماء عبر... السوبرماركت !
ومع هذا، يظل الرهان ممكناً على أن يكون "الوفاء للنيل" رافعة لعودة مصر إلى موقعها في الجغرافيا والتاريخ.