ارشيف من : 2005-2008

تشاد: هل حمى الفرنسيون نظام ديبي؟

تشاد: هل حمى الفرنسيون نظام ديبي؟

كالكثير من غيره من بلدان العالم الثالث التي حققت استقلالها عن الاستعمار الغربي في فترة الخمسينات والستينات، لم يعرف تشاد يوماً طعم الهدوء السياسي ولم يتمكن من إرساء أسس سليمة للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. والأكيد أن عدم وضوح الصيغة الوطنية التي قامت على خرائط تعسفية وضعها المستعمر في فرض حدود مصطنعة لكيانات وطنية أقيمت من دون احترام الواقع الإتني والثقافي التاريخي للشعوب، هي في مقدمة أسباب الاضطراب الدائم. ولعل قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها الرئيس التشادي الحالي، إدريس ديبي، مثلما ينتمي إليها أكثر معارضيه، والتي شطرت، في ظل ترسيم الحدود الاستعماري، إلى قسمين أحدهما في تشاد والآخر في السودان، تشكل مثالاً حياً للمشكلة المتمثلة بعدم وضوح المفهوم الوطني في أكثر من بلد.
والواقع أن الفترة التي أعقبت استقلال تشاد عام 1960، كانت فترة اضطراب بامتياز تخللها ما لا يحصى من انقلابات وحروب مناطقية ودينية تسبب بها تهميش مسلمي الشمال والشرق من قبل فرنسوا تومامبالي، المسيحي الجنوبي، الذي كان ناشطاً في ظل الاحتلال الفرنسي منذ الأربعينات، قبل أن يصبح أول رئيس للنظام الاستقلالي الذي ظل خاضعاً بشكل مباشر للتوجيهات والمصالح الفرنسية. وجاء الانقلاب الذي أطاح بتومامبالي وانتهى بمقتله على يد مسيحي جنوبي آخر، ليكشف عن معطى أكثر خطورة من مجرد الانقسام التقليدي بين جماعات وقبائل تنتمي إلى أديان مختلفة. إنه الصراع على السلطة الذي يتغذى، إضافة إلى المطامح الشخصية، على المخططات الخفية والظاهرة للقوة المستعمرة السابقة. ذلكم أن الصراعات التشادية أخذت، خلال سنوات، شكل صراع مكشوف بين فرنسا وكل من ليبيا والسودان، قبل ولادة الصيغة التي أوصلت حسين حبري إلى الحكم بتوافق فرنسي سوداني أعقب انقلاب نميري اليميني في الخرطوم. وقد يقال بأن إدريس ديبي الذي كان قائداً للجيش في ظل حبري، قد نفذ انقلابه في العام 1990 بدعم ليبي، لكن التطورات اللاحقة بينت أن ارتباطه النهائي كان مع الفرنسيين. كما يمكن القول إن فرنسا التي خرجت من مناطق نفوذها الإفريقية تباعاً، بفعل الضغط الأميركي، تبدي حرصاً خاصاً على الاحتفاظ بنفوذها في تشاد. ومن هنا نفهم سبب الوجود العسكري الفرنسي في تشاد والحماسة الفرنسية لنشر قوة إيروفورس على حدوده الشرقية مع السودان، والذي أعاقته تحديداً حركة التمرد الحالية.
ويعتبر التمرد الحالي امتداداً لسلاسل التمردات السابقة، لكنه يرتكز، إضافة إلى العناصر المتوارثة عن المشكلات التقليدية، إلى عناصر جديدة على صلة بالاضطرابات التي تشهدها منطقة دارفور وتحول المناطق الشرقية من تشاد إلى قواعد انطلاق لهذه الاضطرابات، وكذلك إلى نقاط ارتكاز للجهود "الدولية" ذات المواقف المعروفة من المشكلة. ومن هنا يركز الرئيس إدريس ديبي على تقديم التمرد على أنه تدخل سوداني في شؤون تشاد، ويهدد بملاحقة المتمردين إلى داخل الأراضي السودانية. وبالطبع، يرد السودانيون بالتركيز على المنشأ الداخلي للتمرد. وأياً كانت الحقيقة، فإن التطورات الحالية قد خلطت الأوراق المتعلقة بالتدخل الإفريقي ـ الدولي في دارفور، وربما تكون قد نقلت المشكلة بعيداً عن حدود السودان.
 أما فيما يتعلق بالشأن التشادي الداخلي، فإن أبرز المعطيات تتمثل بإمساك إدريس ديبي بمقاليد الحكم "الجمهوري" منذ العام 1990. وقد تمكن ديبي من الفوز في الانتخابات الرئاسية لمرات متتالية كان آخرها عام 2001، لكن وسط اتهامات بتزوير مكثف للعملية الانتخابية. وبعد نهاية التمرد الذي تواصل بين العام 2002 و2005، تمكن ديبي من إجراء تعديلات دستورية تسمح له بالترشح الدائم للرئاسة، ما يشي بنيته، في ظل سهولة التلاعب بالانتخابات، عدم مغادرة القصر الرئاسي. وإلى ذلك، يضاف الفساد المستشري والمسؤول عن تردي الوضع المعيشي للسكان في بلد غني جداً بالثروات الطبيعية، لكنه لا يؤمن غير مدخول سنوي للفرد لا يزيد عن 400 دولار.  واللافت في التمرد الأخير الذي انطلق من المناطق الشرقية أنه تمكن، خلال أيام قليلة، من الوصول إلى العاصمة نجامينا الواقعة على بعد مئات الكيلومترات غرباً. واللافت فيه أيضاً أنه ضم الكثير من مناصري ديبي والمقربين إليه. ومع مقتل قائد اركان الجيش، داود سومان، ووصول المعارك إلى محيط القصر، بدا للحظة أن نظام ديبي قد أصبح في حكم المنتهي، وهو الأمر الذي يتضح على ضوء ما يقال عن عرض قدمته له القوات الفرنسية بمساعدته على مغادرة البلاد. وقد ظل الموقف الفرنسي محفوفاً بالغموض وسط تصريحات فرنسية رسمية تلتزم موقف الحياد، واتهامات وجهها المتمردون للفرنسيين بدعم ديبي، وكذلك أيضاً وسط الحديث عن تحركات للقوات الفرنسية بين تشاد وبعض القواعد العسكرية الموجودة في بلدان إفريقية قريبة. وقد اعترف الفرنسيون باستقدام أعداد من الجنود إلى نجامينا لتأمين إخلاء الرعايا الأجانب، ثم تبين أن الطائرات الفرنسية قد شاركت في المعارك وقصفت نجامينا موقعة عدداً كبيراً جداً من الضحايا، وأن ذلك تم بضوء أخضر أميركي.
وفي هذه الأثناء، أعلن المتمردون انسحابهم موقتاً من العاصمة لتسهيل إخلاء المدنيين وأكدوا جهوزيتهم لمهاجمتها مجدداً، في وقت صرح فيه وزير الخارجية التشادي، أحمد علامي، بأن القوات النظامية قد تمكنت من دحرهم وسط تصاعد الهجوم الإعلامي على المتمردين من الدوائر الغربية ومؤسسات الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإنسانية التي اتهمت المتمردين بإعاقة وصول المساعدات الإنسانية إلى لاجئي دارفور.
ويظل السؤال قائماً حول ما إذا كان المتمردون قد انسحبوا من نجامينا لتسهيل أعمال الإغاثة أم تحت ضغط القوات الفرنسية أو الحكومية... أم لأن تسوية إقليمية ـ دولية هي التي فرضت هذا التطور في وقت تردد فيه أن الطرفين وافقا على وقف إطلاق النار استجابة لمبادرة قدمت من قبل ليبيا وبوركينا فاسو. وإذا ما كان الأمر كذلك، فإن هذه التسوية لا بد وأن تشتمل على اتفاق بشأن مستقبل الحكم في تشاد، وخصوصاً على مستقبل التحكم بثرواته الضخمة وفي طليعتها مخزونه النفطي الكبير الذي يبلغ اكثر من مليار برميل. ويبقى التساؤل قائماً حول التداعيات المحتملة فيما يتعلق بدارفور وبسائر المنطقة الملتهبة في كل من كينيا والصومال والكونغو ونيجيريا والمناطق السودانية، وكذلك فيما يتعلق بالتوتر المتصاعد بين إثيوبيا وإريتريا...
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1253 ـ 8 شباط/ فبراير 2008

2008-02-08